د.عبد الوهاب الأفندي

التحامل على تركيا

[JUSTIFY]
التحامل على تركيا

(1)
في الدقائق الماضية كنت أتابع عدة تقارير على الراديو تتناول اتهامات كردية وغربية ضد تركيا بأنها تتلكأ في دعم المقاتلين الأكراد في سوريا. ولكن وزير الدفاع البريطاني، أحد من وجهوا هذه التهم على استحياء، رفض عندما سئل عن إرسال طائرات لتدافع عن عين العرب مجرد التفكير في الأمر، قائلاً: لا أعتقد أن البرلمان سيوافق! عندها علقت على تويتر أقول: إذا كانت بريطانيا، وهي تبعد ثلاثة آلاف ميل من المدينة، لا تريد أن ترسل طائرة واحدة يمكن سحبها في لمحة بصر، فكيف تريد من تركيا الانغماس في المستنقع السوري في جوارها دون الدعم الذي تطلبه؟

(2)
في أحد التقارير، تحدث المراسل مع أكراد جاءوا من العراق واسكندنافيا للتضامن مع إخوانهم في عين العرب، وكلهم يلوم تركيا ويطالبها بإرسال جيشها لدعم المقاتلين الأكراد الذين يهددون تركيا بشن الحرب عليها إن لم تدعم فصائل حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل هناك! وإذا كان الجيش التركي من الجبن بحيث يخضع لمثل هذا الابتزاز، فلا بد أنه أجبن من أن يدخل في قتال مع داعش التي لم تبدأه بالقتال بعد. فوق أنه لا ضمانة بألا يقاتل حزب العمال الجيش التركي حتى بعد أن تدعمه ضد داعش، حيث ستقوى شوكته ويحصل على مزيد من التدريب والأنصار والسلاح.

(3)
يعبر المسؤولون الأتراك عن القلق من أمرين تجاه الدعوات المتصاعدة لتدخل تركي بري منفرد في سوريا. الأول يتعلق بالمقاتلين الأكراد، حيث تراهم تركيا الرسمية نسخة أخرى من داعش. فهم مجموعة ذات أجندة إقليمية، تسعى لدولة كردية «كبرى» في سوريا والعراق وتركيا وإيران. وعلى أقل تقدير، هناك تعاون عسكري بين الميليشيات عبر الحدود، وهناك كما أشار التقرير أعلاه متطوعون يأتون من كل بلاد العالم، تماماً كما هو حال داعش. ومن المعروف أن بعض الميليشيات الكردية تحالفت مع نظام الأسد وأعانته ضد الشعب السوري، بمن في ذلك الأكراد المعارضون. وما تزال أجندة هذه التنظيمات غير واضحة وغير موثوقة.
(4)
موضوع القلق الثاني بالنسبة لتركيا هو تداعيات الأزمة السورية على استقرارها وأمنها. فأي تدخل واسع ضد داعش في سوريا سيعني تدفق المزيد من اللاجئين إلى بلد يؤوي سلفاً أكثر من مليون ونصف لاجئ. وهناك أيضاً قلق من مؤامرات النظام السوري، وله أنصاره وعملاؤه في داخل تركيا، إضافة إلى تهديدات من إيران وبقية حلفاء النظام. ومن حق تركيا أن تقلق وتطلب الضمانات.

(5)
لعل المفارقة هي المطالب المتناقضة التي يضعها خصوم تركيا، كما علق أحد المسؤولين الأتراك بأن معارضي الحكومة، ومنهم الأحزاب الكردية، رفضت قرار البرلمان تفويض الحكومة بالتدخل في سوريا إذا اقتضى الأمن القومي ذلك، ولكنهم سارعوا بمطالبة الحكومة بتطبيق القرار الذي صوتوا ضده! قبل ذلك رفع المعارضون أصواتهم ضد تدفق اللاجئين السوريين الذين آوتهم تركيا وقدمت لهم الإعاشة، وهم مع ذلك لا يدعمون مطالب تركيا بمنطقة عازلة توفر الأمان لهؤلاء اللاجئين داخل بلادهم كما نعم بذلك أكراد العراق بعد حرب عام 1991. هؤلاء المعارضون نفسهم يساهمون اليوم في زعزعة استقرار تركيا إشاعة الاضطراب، ثم يطالبون تركيا باتخاذ خطوة غير محسوبة وغير مدعومة دولياً بتدخل لا تعرف عواقبه!

(6)
قامت سياسة تركيا الخارجية التي صاغها رئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو على المبدأ الذي سماه «تصفير المشاكل» مع الجيران. ولهذا سعت تركيا إلى إقامة علاقات تعاون مع إيران وسوريا والعراق وبقية دول المنطقة، ورفضت في سبيل ذلك إملاءات حلفائها الغربيين، ولكنها لم تفقد احترامهم ولا علاقات التعاون معهم. ولهذا السبب، ترددت تركيا كثيراً قبل القطيعة مع الأسد، وقدمت له كل أطواق الإنقاذ الممكنة، ولم تتركه إلا بعد أن غرق في دماء شعبه ولم يعد هناك من سبيل إلا الغرق معه (كما فعل حلفاء آخرون)، أو النجاة بالنفس.
(7)
كتب معلق غربي قبل سنة يقول إن سياسة تركيا سعت إلى «تصفير المشاكل» ولكنها انتهت بـ «تصفير الأصدقاء». وهذه بالطبع مبالغة، وهناك افتراض هنا بأن من خسرت تركيا صداقتهم، مثل أنظمة الأسد والمالكي والسيسي وأضرابها، كانوا يستحقون دوام المودة، أو أن تركيا كانت الخاسر من فقدان صداقة هؤلاء. وهذه مسألة فيها نظر. فتركيا بلد ديمقراطي مستقر، عضو في حلف الأطلسي، وصاحب الاقتصاد السابع عشر في العالم، وأقل دولة تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية. فماذا يضرها إن كان بشار الأسد لا يحبها؟

(8)
التحامل المتزايد على تركيا من الغرب ودول الجوار هو دليل أزمة عند المتحاملين أكثر مما هو عنوان أزمة تركية. صحيح أن تركيا تواجه أزمات داخلية وخارجية، ولكن معظم الانتقادات الموجهة لتركيا تنطلق من الاعتراف بقدراتها وتفوقها، والمطالبة بأن تستخدم قدراتها في خدمة أجندات غيرها. ولا تأتي مذمة تركيا اليوم إلا ممن قصروا عن اللحاق بشأوها.
(9)
لا شك أن هناك مسافة طويلة تحتاج تركيا إلى قطعها، وهي تحتاج إلى تعميق الديمقراطية فيها، وإلى معالجة خلافاتها وأزماتها السياسية الداخلية. ولكن ليس من العدل لوم تركيا على مشاكل جيرانها ومحاولة هؤلاء تصديرها إليها. وحتى الآن، فإن أحسن استقبال وأكرم وفادة يحصل عليها اللاجئون السوريون هي في تركيا، رغم ثقل العبء عليها وانعدام الدعم الخارجي. وفي نظري أن تركيا على حق في الحذر تجاه التدخل في سوريا بدون ضمانات كافية، ومن يريد أن يدفعها إلى التورط غير المحسوب هو المخطئ.
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]