جعفر عباس

الإسهام في تطوير الدوحة

[JUSTIFY]
الإسهام في تطوير الدوحة

وانتقلت بعائلتي الى قطر، وكان عدد عيالي وقتها قد بلغ الثلاثة، ولم يكونوا هم أو أمّهم راضين عن تلك النقلة، فقد كانت الدوحة في عام 1988 مدينة صغيرة قليلة الخضرة، تكاد الإنارة تنعدم في شوارعها داخل الأحياء، وأقمنا في بادئ الأمر في حي الهلال، وأذكر قيامي منزعجا في ساعة متأخرة من الليل، لأسمع صراخ ابنتي التي كان عمرها وقتها نحو خمس سنوات، فهرولت الى غرفتها، فإذا بها تقول لي وهي تشير إلى النافذة المطلة على الشارع: بابا نحن في صحراء، فرغم وجود صفّ كامل من البيوت قبالة بيتنا، فإن كتلة من الظلام كانت تحجبه عن الرؤية ليلا، وسبحان الله. لو قلت لهم اليوم إنني حصلت على وظيفة عمدة مونت كارلو وسيتم تخصيص قصر لعائلتي، لقالوا لي: روح أنت ونحن سنظل في الدوحة مخالفين لنظام الهجرة والجوازات والكفالة العائلية، فشيئا، فشيئا، غرست عائلتي جذورها في الدوحة، وفيها رزقت بأصغر عيالي، واتسعت فيها دائرة علاقاتنا الاجتماعية، ومن أعجب تلك العلاقات ما قام بين أصغر عيالي وعدد من القطريين ومن جنسيات أخرى، التقوا في «الروضة» وظلوا سويّا زملاء واصدقاء في مدرسة واحدة حتى امتحان الشهادة الثانوية، وحتى عندما جاء موسم اختيار جامعات أجنبية (بسبب دراستهم للمنهج البريطاني) اختار عدد كبير منهم نفس الجامعة ودرسوا فيها وتخرجوا سويّا، وحاليا طالعين ونازلين مع بعض بصورة شبه يومية، بعد دخولهم الحياة العملية.
كانت الدوحة الكبرى حتى النصف الاول من تسعينيات القرن الماضي صغيرة بحيث كان بإمكانك السير من وإلى أقصى نقطة في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها انطلاقا من مركزها في حدود أربعين دقيقة بالسيارة، وبعد العاشرة ليلا كان بإمكانك الانطلاق بسيارتك في شارع رئيسي عكس اتجاه حركة المرور من دون أن تصادف سيارة، لأنها كانت تنام مبكرا، ثم «هوووبا»، تمطت الدوحة اعتبارا من أواخر التسعينيات في كل الاتجاهات، وتغيرت ملامح الطرق والأحياء، وتكاثرت المسطحات الخضراء. ويعترف كثير من القطريين بدوري في النهضة العمرانية في الدوحة، فقد شننت حربا ضروسا على دوارين في شارعين رئيسيين، يحملان اسمي رمادا ومدماك، فقد كانا مصدري العكننة الوحيدين لكل من يتنقل بين مناطق الدوحة، ورغم أن المدينة كانت وقتها تنام في نحو العاشرة مساء، فإنه لسبب غير مفهوم كان هناك أناس يرابطون حول الدوارين ليجعلوا اجتيازهما مشابها لتسلق جبل إيفرست، وتمّ دكّ دوار مدماك بمتابعة لصيقة مني، وبناء شبكة من الجسور ونفق مكانه، وتحويل دوار رمادا إلى إشارات مرورية، فقلت لهم: ما ينفعش، وخلال أشهر قليلة ستختفي تلك الإشارات لأن نفقا وجسرا طويلا سيجعلانها عديمة الجدوى.
الغريب في الأمر أنني كنت متصالحا مع دوار في الدوحة كان يحمل اسم «المجنون»، لأنه كان يتألف من عدة دوارات صغيرة بينها ممرات تقود الى اتجاهات مختلفة، وكان اجتيازه يتطلب استخدام جدول لوغريثمات، ولكنه كان يمثل عبقرية في التخطيط، ورغم تشابك حارات المرور فيه وربما بسبب التشابك هذا لم يكن يشهد حوادث مرورية، ومازال هناك الدوار المائل وهو فعلا «مائل» أي شديد الانحدار، ولكنه مهذب وخلوق، ولا يشتكي منه الناس، لأنه، رغم أنه يبدو وكأنه يعاني من فقدان التوازن، شديد التوازن في الواقع، وتنساب فيه حركة المرور بسلاسة، رغم تعرضه لضغوط هائلة في السنوات الأخيرة، وأتمنى عدم إزالته لأنه جميل الشكل ويشبه حديقة صغيرة معلقة على صخرة، ويسعد برؤيته أمثالي من الذين يحنّون أحيانا الى الدوحة القديمة.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]