التكنولوجيا والإعاقة
منذ سنوات أصبت بإعاقة، نجمت عن خلل في وظائف يدي، وبالتحديد أصابع يدي، وما يحيرني هو أن الإعاقة لم تنجم عن علة أو حادث، بل عن عدم استخدام تلك الأصابع في غير الأكل، وانتبهت إلى حدوث الإعاقة بعد ان اكتشفت أن «خطي» صار رديئا، فكلما أمسكت بالقلم وشرعت في الكتابة، ترفض الحروف أن تكون متناسقة، ثم صارت أصابعي تؤلمني إذا كتبت أكثر من ثلاثة أسطر، وقبل نحو 17 سنة صارت مؤسسة الاتصالات القطرية (كيوتل/أوريدو) شركة خاصة، وتطلبت عملية الخصخصة إعداد وترجمة عدد هائل من النصوص، وأذكر أنني قمت بترجمة عقد التأسيس وملحقاته في يوم واحد مستخدما القلم والورقة، وبعد نحو 8 ساعات متصلة كنت قد فرغت من ترجمة نصوص يفوق عدد صفحاتها الخمسين، ولم أذهب بعدها إلى قسم الطوارئ في المستشفى، بل جلسنا نحن أعضاء الفريق الذي كان يتولى إعداد وثائق الخصخصة نتآنس حتى أول المساء، ثم زوغت منهم وعدت إلى مكتبي وكتبت بخط اليد مقالين لصحيفة الوطن القطرية، وأرسلتهما بالفاكس (ببلاش طبعا، وليس في الأمر اختلاس أو استغلال لممتلكات جهة العمل لأن الاتصالات الهاتفية والفاكسية المحلية في قطر بلا مقابل)، وعدت إلى البيت في نحو التاسعة مساء.
الكتابة باستخدام القلم تتطلب الاستعانة فقط بثلاثة أصابع، بينما الكتابة على الكمبيوتر تتطلب استخدام الأصابع العشرة -إذا كنت محترفا- أو إصبعين إذا كنت «هاويا»، وهناك من الهواة من هو أكثر سرعة في الطباعة على الكمبيوتر من مستخدمي الأصابع جميعها، والشاهد هو أن استخدام الكمبيوتر في الكتابة أصاب أصابعنا بالضعف والخلل، تماما كما أن الهواتف الذكية أصابت ذاكراتنا بالتصحّر، فما عدنا قادرين على تذكر أي شيء من دون استشارة الهاتف الجوال، وذات يوم وأنا طالب في المرحلة الثانوية حظيت باحترام زملائي لأنني استخدمت التلفون الذي لم يره معظمهم إلا في الأفلام، وفي هذه اللحظة وأنا أكتب هذه الكلمات على كمبيوتر لابتوب، يجلس على يساري آيفون 5S، ولن أقتني آيفون 6، ما لم يأتني كهدية، لأنني ورغم امتلاكي لآيفون منذ نحو 4 سنوات ما زلت اكتشف فيه خصائص وتطبيقات جديدة، وعلى يميني كمبيوتر لوحي (آيباد) عمره سنتان ولم استخدمه أكثر من مرتين، وفي درج الطاولة التي أجلس عليها 3 أجهزة آيبود يتسع كل واحد منها لنحو 2000 أغنية، وعلى حبي للموسيقى النظيفة (بلغ بي التطور أنني صرت استمع بإعجاب لسيمفونيات موزارت)، وهذه الآيبودات من مخلفات عيالي، ورغم أنها صالحة للاستخدام، فإنني لست من أنصار تركيب «دريب» في الأذنين لتوصيل الموسيقى او الكلام إلى دماغي، فكما أنني ما زلت لا استمتع بالصحيفة ما لم أمسك أوراقها بيدي فإنني لا أطيق الكلام أو الموسيقى ما لم تدخل أذني من دون وسيط سلكي.
كم هو محظوظ جيلنا الذي انتقل من قلم الرصاص إلى قلم الحبر السائل ثم القلم الجاف والآلة الكاتبة/ الطبَّاعة، وورق الكربون، إلى الكمبيوتر، وصولا إلى الاستغناء عن الطوابع البريدية والفاكس لإرسال ما كتبناه إلى جهة ما، وأكثر ما يحزنني هو اندثار الرسائل البريدية، فقد كانت وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بأسلوب مفصل، ولو أرسلت رسالة بريدية قصيرة لأمك أو عزيز لديك لاتهمك بالبخل حتى بالكلمات ووصف تلك الرسالة بأنها تلغراف، وما زلت إلى يومنا هذا احتفظ بعشرات الرسائل البريدية التي أتتني من أصدقاء وأقارب وقراء، وأجد متعة في قراءتها كل بضع سنوات، أما اليوم فقد صار الإيميل نفسه موضة قديمة وتكاد رسائل الموبايل النصية تندثر مع ظهور الواتساب والفايبر والغريب أن من يحادثونك بالواتساب بخلاء بالكلام ويكتفون بأن يحولوا عليك من يصلهم من طرائف من أطراف أخرى.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]