جعفر عباس

من النوم «حرمان» لعدم الأمان

[JUSTIFY]
من النوم «حرمان» لعدم الأمان

كانت لندن التسعينيات التي ذهبت إليها للعمل في بي بي سي، مدينة أقرب الى الغابة منها إلى الحضارة، وصحيح أنه على المستوى الرسمي هناك سيادة القانون، ولكن شبابها صاروا فوق القانون: فالتون ومتوحشون، وعندما ذهبت إليها في السبعينيات كان بإمكاني التجول في جنوب لندن في أمن وأمان مستعصما بلون بشرتي، لأن ذلك الجزء من لندن مستوطنة للسود، بل كانوا كلما عرفوا أنني إفريقي «أصلي» ازدادت محبتهم واحترامهم لي، ولكن في لندن التسعينيات وما تلاها من سنوات إلى يومنا هذا، فإن سواد بشرتك لن يعصمك من التعرض للاعتداء من قبل السود، كما أنه يجعلك هدفا مشروعا للخواجات الذين يكرهون السود من منطلق الاستعلاء العرقي، وأقول بضمير مستريح إن التمييز على أساس العرق واللون مؤسسي في بريطانيا والولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، والعنصريون ميالون إلى العنف، فقد يتحرش بك شاب أبيض بالإساءات فتطنشه وتبتعد عنه فيلاحقك لاستدراجك الى مشاجرة، وعندما يدرك أنك غير راغب في مشاجرة يبادر إلى لكمك أو طعنك بأداة حادة.
وعندما لحقت بي عائلتي، اخترت مسكنا في منطقة هادئة في شمال لندن كلفني نصف راتبي، وكانت تلك المنطقة لا تعرف عصابات الشوارع، بل حرصت على ألا تكون هناك خمارة شعبية pub في الطريق المؤدي إلى البيت، ومع هذا لم أعرف طعم النوم العميق طوال السنتين اللتين عشتهما مع عائلتي في لندن، ففي كل حي هيئة مراقبة أمنية شعبية، توزع على البيوت أسبوعيا إرشادات السلامة اتقاء لهجمات لصوص المنازل وحصرا للجرائم التي شهدها الحي على مدى أسبوع، فتحس بأن الدار «مو أمان»، وفي كل صباح يتوجه عيالك بالمواصلات العامة في اتجاهات مختلفة للوصول إلى مدارسهم، وبحلول الشتاء تكون عودتهم بعد حلول الظلام وحلول الإجرام، وعندنا في العالم العربي فإن الوجبة العائلية المشتركة هي الغداء أما في لندن فهي العشاء، ويكون بعد الغروب بقليل، وتخيل حال عيال تربوا على الوفرة في منطقة الخليج، حيث كان الواحد منهم يفتح الثلاجة متى شاء ليجد فيها فاكهة أو كعكة أو أي شيء تشتهيه نفسه، ثم ينظر الى الثلاجة في بيت العائلة اللندني ويكتشف أن ارتفاعها الذي لا يزيد على 150 سنتيمترا لا يسمح بتخزين أي شيء سوى اللحم المجمد الذي يفترض أنه مذبوح حلالا.
وكنت أستيقظ كل ليلة نحو أربع مرات لأتفقد عيالي، وخاصة إذا سمعت جلبة، ورغم أنني كنت قد اعتدت على غزوات القطط لبيتي وإقامتها في حديقة البيت، إلا أن «الحذر واجب»، وبالتالي كنت أنام مبكرا قدر المستطاع؛ لأنني أعرف أن اللصوص لا يقتحمون البيوت أول الليل، ومن ثم لا يسبب لي قطع النوم والقيام بجولات تفتيشية في البيت عدة مرات ليلا خللا في ساعتي البيولوجية، ولم يكن واردا أن يبدو علي القلق حتى لا أتعرض لشماتة أبله ظاظا، التي هي زوجتي التي عارضت انتقالي من قطر إلى بريطانيا، بل لم أجعلها أو أجعل عيالي يحسون بأن وضعي المالي حرج، فقد غادرت قطر ومعي مكافأة نهاية الخدمة وقيمة أثاث بيتي، فكنت أمارس البحبحة في حدود معقولة بالسطو على مدخراتي القطرية، وفي نفس الوقت ساعدني العيال تعلم التقشف وضغط المنصرفات من زملاء الدراسة: الانتقال بالحافلات أقل كلفة من استخدام القطار، وشراء تذكرة شهرية ينجم عنه توفير خمسة جنيهات، اي أنهم تعلموا الحكمة الانجليزية
Take care of the pence, and the pounds will take care of themselves
وترجمتها الدقيقة وغير الحرفية: خُد بالك من البنسات (واحد على مائة من الاسترليني) والجنيهات ستأخد نفسها.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]