مصطفى أبو العزائم

قرأتُ لك: مدينة الـخرطوم تحت الحكم المصري (3)


[JUSTIFY]
قرأتُ لك: مدينة الـخرطوم تحت الحكم المصري (3)

٭ أما عن قصة دخول العرب السودان، فيقودنا د. أحمد سيد أحمد بتؤدة وروية ممسكاً بأيدينا عبر الحقب المتطاولة والدروب والمسالك المتشبعة الى ان حط بنو يعرب رحالهم في أرض السود وانتشروا بالرعي والتجارة والدعوة الاسلامية.. حتى انتهوا إلى «التمكين» ووراثة الممالك عبر «الأم» التي تعارف النوبيون على انتقال العرش في بنيها، فكانت المصاهرة هي الوسيلة المثلى «للانتقال السلمي للسلطة».

٭ في هذا الفصل الأول من الكتاب، البالغ عدد صفحاته واحد واربعين صفحة لا غير، يعيدنا د. سيد أحمد إلى ما مجموعه (631) إحالة لمصدر أو مرجع أو وثيقة. وقد تتعدد مصادر الإحالة الواحدة بأكثر من مرجع أو وثيقة، بما يشي بحجم المجهود البحثي الذي بذله الرجل في تسطير كتابه الاستثنائي، والذي تمنى العالم الراحل د. محمد إبراهيم أبو سليم مدير دار الوثائق المركزية الأسبق- رحمه الله- لو أن الكتاب كان من تأليفه، كما أبلغني السفير جمال محمد إبراهيم اخيراً في مناقشة هاتفية حول الكتاب وقيمته العلمية.

٭ ينبه الكاتب إلى صلة العرب القديمة بالسودان حتى قبل محاولات الفتح العربي الاسلامي لبلاد النوبة في القرن السابع الميلادي، وهو ما نبه له العلامة الراحل د. عبد الله الطيب، وهو عمدة تاريخ الأدب الجاهلي بامتياز، فكثيراً ما تحدث عليه الرحمة عن تلك الصلات التبادلية والرحلات الممتدة عبر الدهور والأزمان بين شاطئي البحر الأحمر (المالح) الغربي والشرقي والمساكنة والمصاهرة بين الأقوام هنا وهناك.

٭ محاولات الفتح بدأت منذ سنة 02هـ (146م) مع عمرو بن العاص الذي وجه حملة لفتح «المقرة» أو النوبة الشمالية، وتلاه الوالي عبد الله بن أبي السرح سنة 13هـ (256م» التي غزا دنقلا وانتهى إلى الصلح مع «رماة الحدق» فكانت اتفاقية «البقط» الشهيرة.. وإذا كان العرب لم يحتلوا البلاد بالرغم من النصر العسكري الذي احرزوه، كما يقرر د. سيد أحمد، وإذا كان من شروط «البقط» ألاّ يدخلوا البلاد إلا للتجارة، إلا أن الجماعات العربية في جنوب مصر أخذت في التسرب السلمي إلى شمال المقرة «اقليم مريس» وما جاورها شرقاً من بلاد البجة، وزاد هذا التسرب بعدما سيطر الترك على الدولة العباسية أيام المعتصم، وأصبح حكام مصر من غير العرب منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، وبعد أن قاسى العرب كثيراً من ضغط الحياة في ظل الحكام الجدد، وترامى إلى اسماعهم ما تخبئه أرض البجة من نفيس المعدن، اتجهوا جنوباً كما تقاطر آخرون عبر البحر الأحمر.. وثبت بالأدلة قيام مواطن ومضارب عربية هناك منذ القرن الثامن الميلادي.

٭ تعاظَمَ أمر الهجرة العربية مع أحمد بن طولون الذي ارسل بدوره حملة جديدة جنوباً كان أغلب جندها عرباً، واستقر كثير منهم في البلاد، وكذلك تكرر الأمر على أيام الدولة الفاطمية (969- 1711م) وعلى أيام الدولة الايوبية (1711- 0521) فأرسل صلاح الدين حملتين إلى بلاد النوبة واصطدم جنده ببني كنز (الكنوز) القائمين حول اسوان، وهم من ربيعه، اعتقاداً من صلاح الدين أنهم يعملون على إعادة الدولة الفاطمية، فانتقل كثير منهم ايضاً بعد هزيمتهم إلى بلاد النوبة، فلم يعد لملوك النوبة سوى نفوذ اسمي، بعد اختلاط العرب بهم واعتناق كثير منهم للاسلام.

٭ وهكذا ازدادت وتفاقم خطرالهجرة العربية بعد سيطرة المماليك على مصر بتدخلهم المباشر في شؤون الحكم في بلاد النوبة بمشاركة كثير من القبائل العربية المقيمة في مصر في تلك الحملات، وفضل كثير منهم الاستقرار والتعايش عوضاً عن العودة من حيث اتوا، بالنظر لمغريات البقاء المتمثلة في المراعي الخصيبة، التي جذبت عرب جهينة لهجرات جماعية مهولة مع خليط كبير من القبائل العدنانية والقحطانية إلى البلاد اوائل القرن الرابع عشر الميلادي، بينما اتجه خليط آخر منها إلى أرض البطانة والجزيرة.. ويلاحظ الكاتب أن هذا السلطان العظيم للعرب لم يتم فجأة بل استغرق عدة قرون.. وهو السلطان الذي يكتب ابن خلدون عنه قائلاً «وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم، ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق مُلكَهم، وصار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الاخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على ملكهم».

٭ وبما أن د. سيد أحمد مهتم اساساً، بالعواصم السودانية التي سبقت نشوء الخرطوم، فقد تتبع الأحوال في سوبا ومسألة سقوطها كعاصمة قبل «خرابها» الذي أتى لاحقاً بعد أن أمضت ردحاً من الزمان كحاضرة تجارية.. فملك علوة انتقل منها إلى مدينة أخرى بعيدة تدعى «كُوسه» أواخر القرن الرابع عشر تحت الضغط الهجرة العربية المتواصل، وقيل أن تلك العاصمة الجديدة تقع على مقربة من وادي الملك.. ويعيد سيد أحمد «خراب سوبا» الشهير إلى الربع الأول من القرن السادس عشر، استناداً إلى (إي إن أدلر).

٭ كذلك يرصد الدكتور سيد أحمد بتفصيل واقتدار قيام السلطنة الزرقاء وتحالف الفونج بقيادة عمارة دنقس والعبدلاب بقيادة عبد الله جماع- وبالمناسبة يطرح الكاتب فرضية أن يكون هناك اكثر من «عبد الله جماع» في تاريخ القبيلة- أما أين كانت عاصمة دنقس قبل انشاء (سنار) فهو يذهب بنا في سياحة طويلة بين العطبراوي وستيت والدندر والرهد وحتى خور بركة بحثاً عن تلك العاصمة الأولى للفونج المسماة «لمل أو لولو».. كما يعرج بنا شمالاً ليُشهدنا على اختيار جماع والعبدلاب لعاصمتهم في (قَرِّي) عند جبل الريان، بعد معركة أربجي سنة 019هـ (4051م) التي خاضها الحلف وهو التاريخ الذي تجعله الروايات الوطنية بداية لقيام السلطنة الاسلامية الأولى الموحِّدَة لأجزاء كبيرة من البلاد، على هيئة دولة «شبه فيدرالية»، يمكن ان تشكل نموذجها الاداري وعلاقاتها بالأقاليم المكونة لها موضوعاً لبحث مستقل لبعض طلاب الدراسات التاريخية.

(نواصل)

[/JUSTIFY]

بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]