عبد الجليل سليمان

“غاليتش” وذاكرتي الخائنة

[JUSTIFY]
“غاليتش” وذاكرتي الخائنة

يا الله، ما هذه الذاكرة اللعينة.. ضمن سلسلة المسرح العالمي أنجز المترجم الرائع (صالح علماني) في العام 1982م، ترجمة مسرحية (القطار الأصفر)، للغواتيمالي (مانويل غاليتش) الذي يعد من أهم أعلام الأدب المسرحي في أمريكا الوسطى، و(غاليتش) الذي ولد عام 1913 اُشتهر بكتاباته المناهضة لديكتاتورية (خورخي أوبيكو) واشترك كرئيس لاتحاد الطلاب في الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام حكمه.

أحداث المسرحية ذات الفصول الثلاثة دهمت ذاكرتي، بحكايات الموت والحياة، بحكايات المرفأ الصغير الذي تتسرب خلاله شركات (أجنبية) ضخمة تحتكر صناعة السكر وزراعة قصبه في تلك البلاد، ثم تسرقه نهاراً جهاراً.

المرفأ الصغير، بفنادقه الكالحة يتحول إلى مدينة صاخبة حين يتسقبل السفن، فتسهر البارات وتضج المراقص والمواخير الملحقة بها، وتضع الغانيات كسلهن وخمولهن جانباً ما إن تُداعب آذانهن ذات الأقراط الكبيرة المُدلاة على مهاوي كتوفهن أبواق البواخر، حيث تحمل إليهن الرزق الوفير والهدايا القيمة القادمة من بلاد يعيدة. المرفأ الصغير، هو المدخل الرئيس للسرقات الكبيرة، سرقات الشركات الكولونيالية للشعوب الفقيرة بتواطؤ مع الحكام بالطبع.

حياة أخرى في الداخل، حياة العمال والفلاحين داخل مجمعاتهم السكنية المختلطة، نساء، رجال، أطفال وشيوخ، يقضون نهارهم وليلهم يزرعون ويعتنون ويقطعون قصب السكر، ثم يحملونه على كتوفهم إلى قطارات الشحن الصفراء الضخمة التي تذهب به إلى المصانع الكبيرة، لتأتي تلك السفن وتذهب بكل شيء حتى تلك الذكريات اللطيفة من مشاجرات العمال وقصص الحب والموت والولادة والاحتجاجات وما لا نهاية لها من أحداث ومآسٍ.

أخاف من خيانة الذاكرة، لأن خيانتها عظمى، ولأنني قرأت تلك الفصول قبل أكثر من عقدين، وهنذا أحاول من الذاكرة أن أضع بعض خيوطها على مشبكي ومنولي لأنسج من فكرتها الرئيسة تلك (قماشة) حسيرة لا تكفي تغطية عورة ما يحدث في بلادنا من تقاعس في الإنتاج، لذلك لن اكترث للتفاصيل إن كانت عارية الكم أو (فوق الركبة وتحتها)، فالمسرحية كانت تحكي عن سرقات الشعوب بالتواطؤ مع الشركات (فقط)، لكن (غاليتش) كان يفعل ذلك عبر لعبة مبدعة وذكية، لعبة تُبْتدر ضربة بدايتها في المرفأ بركلة من غانياته وطواقم السفن، ثم بتمريرات قصيرة متقنة يتبادلها الفلاحون الفقراء بين مزارع القصب ومصانعه، ثم يأتي الهدف القاتل بتسديدة قوية لا يعرف حارس مرمى غواتيمالا (خورخي أوبيكو) من أي الزوايا دخلت، فقط يجدها في (حلق المرمى).!!

من لديه المسرحية فليعرني لها، ربما لم تكن كذلك بالضبط، وإنما هذا ما كان في قاع ذاكرتي الخوّانة.!!

[/JUSTIFY] عبد الجليل سليمان
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي