عبد الجليل سليمان

الرسائل والهرج العظيم

[JUSTIFY]
الرسائل والهرج العظيم

بجانب أنها كانت الآلية الوحيدة لتداول ونقل الأخبار بين الناس، وإرسال الوثائق والمستندات الرسمية، فقد كانت وسيطاً فعالاً للتعبير عن المشاعر بين العشاق. فالرسائل التقليدية المحررة والمُحبرة يدوياً كانت تحمل قيماً معرفية وثقافية وعاطفية لا نظير لها، حتى أنها تبوأت مكانة رفيعة بين أنماط وضروب الإبداع فيما بات يعرف بـ(أدب الرسائل).

وفيما يلينا في (خضمنا) هذا، احتفى غناؤنا بالرسائل أيما احتفاء، وظلت أغان تحتل (علالي) الأغنيات التي يشغف ويهيم بها العشاق، فترتفع عندهم إلى مرتبة ما يعرف بالأغاني (المفضلة)، ويشهد على مرتبتها هذ البرنامج الإذاعي الشهير ( ما يطلبه المستعمون) حيث ضنف هذا النوع من الأغاني (الأكثر طلباً)، فمَن من الناشطين في طلب الأغنيات في ذلك الزمان لم يرق مداده ويهدر ماله في شراء طوابع البريد والمظاريف والأوراق الموشحة بالورود والقلوب ليطلب ( ما في حتى رسالة واحدة.. بيها أتصبر شوية) أو ( الرسايل العندي شيلها.. وكل ذكرى ريد جميله.. والصور لو قلت برضو)، وما إليهما من خالدات أغنيات الرسائل.

وبعيداً عن (خضمنا) الغنائي، كان من الصعب أن تجد قارئاً أو مثقفاً لم يطلع على الرسائل المتبادلة بين الشاعرين (محمود درويش وسميح القاسم) أو بين (محمد شكري ومحمد برادة) ويتأثر ويتأسى بها وتظهر سماتها وملامحها في أعماله الكتابية أو الإبداعية إذا كان من الناشطين في المجالين آنفا الذكر، أو في ثرثراتهم اليومية إذا كانوا من صنف المثقفاتية من المتكلمين طليقي الألسنة مغلولي الأقلام. فمثلاً نقرأ في الرسالة المؤرخة بالرباط (30/6/1975)، التي أرسلها برادة إلى شكري ما يلي: ( قرأت الفصل الذي أعطيته لي من سيرتك العاطرة “من أجل الخبز وحده” الخبز الحافي لاحقاً) ووجدته ممتعا ومليئا باللقطات الإنسانية.. وأعتقد مبدئيا قبل الوصول إلى قاع الخابية – لا أن يحول دون نشرها هنا بالمغرب، فيرد شكري: (من شعر صديقي الإسباني خونيو, أول قصيدة تبدأ هكذا: “ينبوع الجميع.. الشعب كان ظمآن .. ولم يكن هناك غير ينبوع واحد للشرب.. ليس للينبوع مالك”).

ثم تتجه شرقاً لتقرأ مقطعا من رسالة درويش إلى سميح: ( بين عاصفةٍ وعاصفة، قد نجد مَقعداً للحنين أو الوداع. طوبى لهذه السُّكنى القصيرة المُسَوّرة بالرّيح. ولكن، لماذا تخشى السُّخرية.؟ إذا كان لا يروقُكَ تعريفُها بأنّها “اليأس وقد تهذّب”، فإنّ في مَقدوركَ أنْ تُسمّيها ما شئتَ، شرط أن تدرأ عنكَ البُكاء.. وأن تقترحَ وردةً على الليل).

الآن، ومع (واتس اب، واس ام اس) وأخواتهما، لن يقترح أحد وردة على الليل ولا يستطيع درء الدموع عن عينيه وهو يقرأ هذا الهرج العظيم.!!

[/JUSTIFY] عبد الجليل سليمان
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي