جعفر عباس

خير الكلام ما قلّ أو زال (1)


[JUSTIFY]
خير الكلام ما قلّ أو زال (1)

لو عدنا بالذاكرة ثلاث سنوات أو أكثر لاكتشفنا أن الزعماء الذين طاروا في إعصار الربيع العربي، كانوا الأكثر ثرثرة، وشغفا بالمايكروفونات والكاميرات، أي أنهم، وبلغة الأدب كانوا ينتمون إلى العصر الجاهلي، وهو العصر الذي كانت فيه القصيدة التي عليها القيمة تسمى «معلقة»، وكل من درس المعلقات (ولا أعتقد أن عاقلا يقرأ أي معلقة للمتعة، لأنها مركبة بنظام سمك لبن تمر هندي، تبدأ بالوقوف على أطلال وهمية، والبكاء على فراق حبيبة فيسبوكية، اي افتراضية، وتتوغل في المعلقة وتقرأ شروح مفرداتها فلا تعرف ما إذا كانت تلك الحبية امرأة أم ناقة)، وجارى الزعماء المخلوعون روح العصر الجاهلي بالمعلقات النثرية الثرثرية، فقد كان الواحد منهم يرغي ويزبد لساعتين أو ثلاث دون أن يفتح الله عليه بجملة مفيدة، ولا أعرف خارج الوطن العربي زعيما جارى زعماءنا وبزّهم في ذلك المضمار، سوى الزعيم الكوبي المتقاعد فيدل كاسترو، والرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، وكاسترو زعيم حقيقي لشعبه ولم يكتسب تلك التسمية من باب «زعم، يزعم»، بل بعرق جبينه، فقد حمل السلاح وحارب في الجبال والسهول حتى أسقط نظاما ديكتاتوريا مسنودا من الولايات المتحدة، وكانت خطبه الجماهيرية من فصيلة المعلقات، لأنه كان لديه ما يقوله لشعبه وللولايات المتحدة التي ظلت تخطط لقتله، ثم جرجرة بلاده إلى حظيرة جمهوريات الموز، التي تختار واشنطن رؤساءها وأعضاء حكوماتها، ولاعبي منتخباتها الوطنية لكرة القدم، أما شافيز فالراجح عندي أنه يحمل جينات عربية، لأن الخطبة الواحدة عنده كانت تستغرق نفس المدة التي يستغرقها حفل كامل للراحلة أم كلثوم، وكلنا نعرف أن الاستماع إلى «أقصر» أغنية لأم كلثوم يتطلب الحصول على إجازة عارضة، أو تفويت وجبة العشاء، واعتقد أيضا أن شافيز كان يتخذ من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري والزعيم الليبي قتيل أنبوب الصرف الصحي (معمر الجزافي) مثلا أعلى، فكلاهما كان يقدم برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا، لا زمن محدد له يبرطم خلاله كما يشاء، وكان شافيز مثل القذافي الذي كان بدوره مثل النبع المعروف في البحرين «عين عذاري» الذي «يسقي البعيد» ولا تستفيد من مياهه الأراضي التي تطل عليه، فقد ظل شافيز والقذافي يهدران ثروات بلديهما النفطية لاكتساب شعبية عالمية، بينما كان الليبيون والفنزويليون، يعرفون فقط من وسائل الإعلام أن بلديهما يحوزان ثروة نفطية هائلة.
ومشكلة القادة العرب الذين يعشقون الثرثرة، هي أنهم يضطرون في معظم الأحوال إلى الارتجال، لأسباب مفهومة، منها أن سياساتهم تقوم على الارتجال و«زرق اليوم باليوم. ولكل حادث حديث»، ومنها أنهم يضمنون بذلك ما يمسى «عدم الخروج على النص»، لأن سياسة الارتجال تعني عدم وجود نص أصلا، والارتجال أخو الهرجلة و«البرجلة» في الرضاع، ولعل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر هو مؤسس مدرسة المعلقات الجماهيرية، فقد كانت خطبه تتسم بالطول المفرط، ولكن الرأي العام المصري لم يأخذ عليه ذلك، لأنه كان «الرائد» في هذا المجال كما أسلفنا، وكان مثل كاسترو عنده ما يقوله: التأميم وحرب السويس وحركات التحرير في الجزائر واليمن الجنوبي وهزيمة يونيو حزيران 1967 و، و.. ثم خلفه السادات الذي كان يستحق الأوسكار أكثر من استحقاقه لجائزة نوبل للسلام، فقد كانت خطبه «ممسرحة»، وتتراوح نبرات صوته بين السوبرانو والألتو والتينور والميلودي، وحباه الله بحبال صوتية قوية، كان يستغلها لتقسيم الجمل إلى مقاطع يعلو فيها صوته وينخفض ويمتد ويرتد بحساب متقن لا يعرفه إلا من درس فنون العمل الإذاعي أو الدرامي.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]