جعفر عباس

خير الكلام ما قلّ أو زال (2)


[JUSTIFY]
خير الكلام ما قلّ أو زال (2)

كتبت بالأمس عن ولع بعض القادة العرب بالخطب الجسيمة المطولة من فصيلة المعلقات الجاهلية، وقلت إن تلك المعلقات ضرب من الشعر يستعصي على الفهم، لأن الشاعر يمارس النطنطة من موضوع إلى آخر مستخدما مفردات لا يفهمها حتى غوغل «أبو العريف»، وضربت مثلا بعدد من القادة من مختلف القارات، من بينهم مزمجز الجزافي الذي رفض اللجوء خارج بلاده عندما رفضه الشعب، ثم لجأ إلى أنبوب للصرف الصحي وتم تصريفه من هناك إلى القبر، وتحدثت عن خطب الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر المطولة، الذي كان على الأقل عنده ما يقوله حول التأميم ومناطحة الاستعمار والاصلاح الزراعي إلخ، ثم عرجت على خلفه أنور السادات، الذي كان يجيد التمثيل ويتمتع ببراعة في إلقاء الخطب، ليجعل من الفسيخ شربات (وانهالت على المسكين الشتائم بسبب إبرامه اتفاقية كامب ديفيد، من نفس من هلّلوا لاحقا لكامب غزة أريحا، وشتان ما بين الكامبين).
وفجأة ومن دون سابق تخطيط وتدبير وجد حسني مبارك نفسه رئيسا لمصر، ولولا أن قتل خالد الإسلامبولي السادات، لما آل الأمر إليه، ومع هذا كان هو من وقع على أمر إعدام الإسلامبولي (على ذمة الأستاذ محمد حسنين هيكل فإن السادات أيضا صار رئيسا بالصدفة، فقد كان عبد الناصر مسافرا إلى المغرب، وبحسب نص الدستور كان عليه أن يعين نائبا له، فقال إن السادات «المسكين» هو الوحيد من أعضاء مجلس الثورة الذي أطاح بالملكية في مصر، الذي لم يشغل منصب نائب الرئيس، فقرر إسناد المنصب إليه لبضعة أيام، أي إلى حين عودته من المغرب، ثم عاد من المغرب ونسي الموضوع، إلى أن فاجأه الموت، بعد عودته بأيام، فكان لا بد من أن تتم ترقية النائب إلى رئيس كامل الدسم). وكان حسني مبارك في أيامه الأولى في الحكم يعرف قدر نفسه، ولا يخاطب الناس إلا من نص مكتوب، وشيئا فشيئا «صدّق حاله»، وأنه مؤهل لشغل المنصب مدى الحياة، فبدأ يمارس ما يسميه المصريون «العك» الخطابي، بدرجة أحسب فيها أن أصحاب المعلقات السبع تململوا وتميّزوا غيظا في قبورهم: كيف لهذا العييّ الأخرق أن يتفوق علينا من حيث «المدى الزمني»، وكيف جعل من خُطبِه البتراء «سوق عكاز» ينهال بها على رؤوس المواطنين، بينما كان الناس يطربون لنا في سوق عكاظ؟
وفشار سوريا الحالي أيضا صار رئيسا بالصدفة، فلو لم يمت شقيقه باسل في حادث سيارة، لكان على أحسن الفروض مديرا لمستشفى أو وزيرا للصحة، وخلال سويعات بعد وفاة والده كان قد تم تفصيل الدستور على مقاسه (الدستور في كل بلد عربي يصنع من الكستور ليسهل قصّه وتفصيله وترقيعه)، وكان أعجب ما في الأمر ان شخصا لم يكن يحمل حتى رتبة جندي في القوات المسلحة، نال خلال دقائق رتبة فريق أول، وصار القائد الأعلى للقوات المسلحة. وأذكر أنني حرصت على متابعة أول خطاب له كرئيس لسوريا، ومن الإنصاف أن أعترف له بسلامة اللغة والنطق والمخارج، ولكنه لم يخيب ظني فيه: فقد استغرق خطابه ساعتين وربع الساعة، فصارت تلك المدة السقف الأدنى كلما خطب خطبا جسيما في الكرنفال المسمى «برلمان».
والشاهد يا قادتنا البواسل، هو أنكم المعنيون بمقولة: إن السكوت من ذهب، فكلما أفرطتم في الثرثرة واللغو انكشفت سوءاتكم، ولعل أحداث الأعوام الثلاثة الماضية تثبت لكم كم كان حكيما من قال: لسانك حصانك.. إن لم تصنه رفسك، وألزمك مستشفى السجن أو المنفى أو القبر.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]