جعفر عباس

لا تغمطوا حق الشعوب


[JUSTIFY]
لا تغمطوا حق الشعوب

الدارج عندنا هو أنه ما إن يتفجر حدث سياسي، حتى تنبري له الحناجر والأقلام باللّت والعجن، ثم وفرت ثورات الربيع العربي للكتاب الصحفيين مادة طازجة تسمح لهم بالتنظير والتحليل وإصدار الأحكام، والتوصل إلى استنتاجات بعضها راشد وكثير منها فاسد، وما من حديث عن الثورات العربية يصيبني بالقرف، مثل الزعم بأن هذه الثورات مؤامرة لتفكيك الدول العربية. يعني «اسم الله عليها»، كانت هذه الدول في عهود الطواغيت في منتهى التماسك والتوازن، وجاء الشيطان الأكبر (واشنطن)، ووسوس في آذان المصريين: اذهبوا إلى ميدان التحرير ولا تهابوا الموت، وطالبوا برحيل حسني، وتكتك الأمريكان الأمور ليفوز «أحبابهم» الإخوان المسلمون، ثم أوعزوا للجيش بأن يطيح بالرئيس الإخواني محمد مرسي، ولم يكن ذلك كرها لـ «الإخوان» ولكن استكمالا للسيناريو المؤدي إلى منح السويس والإسكندرية وكفر البطيخ الحكم الذاتي.
ولا يقول إن الثورات العربية مخطط تآمري غربي إلا من يحتقر الشعوب التي قامت بتلك الثورات، ويعتبرها قطعان بهائم بلا إرادة، تساق بالتحكم عن بعد، وهكذا مات الآلاف في مصر وليبيا، وعشرات وربما مئات الآلاف في سوريا بإيعاز من واشنطن ودول الناتو، ومن يقول بذلك يعتقد أن حسني شرم الشيخ، كان مغضوبا عليه من واشنطن وشركائها، مع أن الرجل كان خاتما في إصبعها، ويتقاضى عمولات نظير ذلك، حتى قعيد ليبيا مزمجر الجزافي، قضى سنوات حكمه الخمس الأخيرة، يلعق أحذية الجالسين في البيت الأبيض وبروكسل، وسلمهم ملفات جرائمه بالكامل نظير نيل العفو وأعطاهم «فوق البيعة» كل مخزونه من المواد النووية والأسلحة الجرثومية، وكف عن «طزطزة» أمريكا نهائيا.
ويعتقد تجار نظرية أن الثورات العربية مؤامرة إمبريالية، أنهم على حق لأن تلك الثورات قادت حيثما حدثت إلى اضطرابات بل وحمامات دم، وكأنما حمامات الدم في حماة السورية وحلبجة العراقية ومعظم مدن ليبيا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي أمور غير مريبة لأنها صناعة محلية، ومثل جميع الشعراء المجيدين فقد كان مظفر النواب استشرافيا عندما قال في السبعينات: وطني علمني أن حروف التاريخ مزورة/ حين تكون بدون دماء!! هذا هو بيت القصيد يا جماعة، فلا ثورة حقيقية ولا تغيير بدون دماء تكنس دنس عقود طويلة، وكل ثورة كائن حي، تكون له لحظة ميلاد، ثم يمر بفترة تسنين يعاني فيها من الحمى والهذيان والإسهال، ويحتاج إلى المصل الصحيح كي لا يكون عرضة لشلل الأطفال والسعال، ثم تأتي مرحلة بها بعض الطيش والنزق، ويعقبها التعقل والرشد.
والشاهد هنا أنني أستنكر نسبة الفضل في إشعال ثورات ناجحة إلى الأعداء التاريخيين لتلك الشعوب الثائرة، بينما الحقيقة هي أن الثورات لم تكمل دورتها، ولا تعني الانتخابات أنه تم تكريس الديمقراطية بعد الإطاحة بالديكتاتوريات، ونحن نعرف أن النادي الأهلي القاهري أكثر شعبية وجماهيرية من الأحزاب المصرية مجتمعة، وأنه لو وقف نوري المالكي وكاظم الساهر على منصة واحدة لتساءلت الجماهير عن الذي يقف قرب كاظم، كما لا يعني فوز السيسي بالانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة أنه بالضرورة الزعيم المنقذ، فالتونسيون أعطوا ثقتهم لراشد الغنوشي، ولكن كثيرين ممن فعلوا ذلك انقلبوا عليه، فانحنى للعاصفة ليجنب بلاده التسونامي، والشاهد هو أن اكتساح شخص أو حزب ما في دول الثورات العربية الانتخابات، لا يعني أنه رمز الثورة ومن سيحقق أهدافها، والغالبية ليست دائما على حق، وقد لخص أمر الانتخابات وكيف أن رأي الغالبية قد لا يكون ملزما لمن يخالفونها، شاعرنا الكبير إيليا أبو ماضي في بيتين رائعين من الشعر:

لما سألت عن الحقيقة قيل لي
الحق ما اتفق السواد عليه
فعجبت كيف ذبحت ثوري في الضحى
والهند ساجدة هناك لديه
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]