عبد الجليل سليمان

“تبويق” الحناجر


[JUSTIFY]
“تبويق” الحناجر

من الشعر الصيني المترجم نقرأ: “نافخ البوق يموت أولاً، يصعد تلة مرتفعة يترقب الأعداء، وحين يراهم ينفخ بوقه بفزع ليخبر رفاقة، فترشح خيوط دمٍ رفيعة من قاع حنجرته، ورويدا وكلما اشتد نفخه يفقد المزيد من دمه، حتى يسقط ميتاً، دون قطرة دم واحدة”.

ولأن الصينيين أهل حكمة وفكرة، لم يجد الشاعر ما يدعوه لـ(يُبندق) موت النافخ، ويقول: “أصابته رصاصة فأردته قتيلاً من على التلة”. لأنه لا يستحق هذه (الميتة الباسلة). وهكذا هم نافخو الأبواق في كل زمان ومكان، مصيرهم أن ترشح خيوط الدم من قيعان حناجرهم إلى فوهات الأبواق، فيموتوا بـ(بفقر الدم)، جزاءً وفاقاً لما ارتكبت حناجرهم.

وعليه فإن كثيرين هنا، في هذه البلاد ممن يمتهنون نفخ الأبواق، بغض النظر عن مقامات ووظائف (النافخين لهم)، ينتظرهم مصير بائس وتعيس، خاصة أولئك الذين يرفعون سباباتهم بطريقة (الإشارة جاي ولا جاي) الواردة في أغنية (محمد حسنين)، رحمه الله، ثم يطلقون ألسنتهم بالزعيق والنعيق والهتاف بشعارات عفا عليها الزمن وغادرتها معانيها وهربت منها مضامينها.

هؤلاء سوف يموتون أولاً، يليهم صانعو الهتاف ومصممو الشعار، يعقبهم أو ربما يسبقهم (رتبوا كما شئتم) المستهدفون بالنفخ.

لكن، كل هذه (النماذج) من المجازات التي طرحناها آنفاً، لن تعفي سائقي السيارات الخاصة والعامة، والإسعافات والتشريفات الذين يستمتعون بـ(ضرب البوري) ليزعجوا عباد الله من السامعين والمرضى والتلاميذ (المذاكرين والمذاكرات)، والعابرين والسابلة، ربما استهداءً واسترشاداً بالترنيمة القديمة للمغنية الشعبية: “يا أبوي سنهوري/ أنا عايزاك ضروري/ لو عايز تغيظهم أقيف واضرب البوري”. فيعمدون دونما سبب وجيه ومبرر كافٍ إلى إغاظة الناس بالنفخ اليومي في أبواقهم النشاز.

ويبدو لي ـ ولست متأكداً تماماً ـ أن السودان وربما (الشقيقة) مصر (القريبة دي) كما يقول بعضنا، يمثلان استثناءً دون دول العالم جميعها في الاحتفاء بما يمكنني تسميته (تبويق الحناجر)، فتراهم يهتفون ويصرخون ويطلقون الأبواق ويحدثون جلبة وصخباً لا نظير لهما على هذا الأرض ولا مثيل، وربما لا يضاهيهما إلا الصُوْر الذي سيُنفخ لاحقاً، وحينها ربما سيبعثون أولاً ويرسلون إلى النيران كلها (لظى وجهنم والجحيم وسقر) وما إليها جراء ما فعلته بنا حناجرهم.

[/JUSTIFY] عبد الجليل سليمان
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي