متى تكون العمالة للغرب حميدة
أعتقد أن أهم قرار في مسيرة أي إنسان مازال يتلقى العلم هو: ماذا أدرس؟ أي مادة؟ ولماذا؟ وهل أنا قادر وراغب في دراستها؟ وأين أدرسها (في المرحلة الجامعية)؟ وما هي الفرص التي ستفتحها لي دراسة تلك المادة؟ ولهذا فإنني قبل أن يكمل ولدي أو ابنتي المرحلة الثانوية أجلس معه أو معها لأشهر طوال، نستعرض الخريطة الأكاديمية، وقدرات وميول الولد أو البنت، ونحصر مجالات التخصص المرغوب فيها بحيث تكون لدينا نحو ثلاثة خيارات، ثم نحصي تكاليفها المالية، وبعد ذلك نقوم بعمليات بحث وتقص مكثفة لكل جوانب المسألة، والجانب الوحيد الذي أمارس فيه ديكتاتورية أبوية، هو ضرورة أن يكون التعليم الجامعي في مؤسسة تعليمية غير عربية. وأنا لا أعاني من عقدة دونية تجاه كل ما هو أجنبي، بل إن احتكاكي بالأجانب يزيدني اقتناعا بأنني وغيري من الذين يعيشون في العالم العربي نتفوق عليهم في كثير من المجالات الفكرية والثقافية، ولكن في مجال التعليم «يفتح الله». فأريد لعيالي أن يحرزوا تقدير «ممتاز» في الأدب العربي، لأنهم يحفظون معلقة لبيد أو زهير أو طرفة من دون أن يفهموا واحدا على عشرة من معانيها كما حدث لي، وأنا نتاج جامعة عربية، ولهذا فإنني اعتبر نفسي عصاميًّا، بمعنى أن معظم حصيلتي المعرفية أتت بجهد ذاتي، فقد تخرجت مسلحًا ببكالريوس في اللغة الإنجليزية بمرتبة الشرف، وعندما دخلت الحياة العملية اكتشفت أن إنجليزيتي بمرتبة «القرف» وطفقت أتعلم تلك اللغة بالإكثار من الاطلاع على نتاجها من أدب وفكر وسياسة، واكتشفت بعد الإبحار في دنيا الكتب أنني أحمل بكالريوس في الأمية المعرفية. وكانت جامعة الخرطوم التي درست فيها على أيامنا صنو جامعة كيمبريدج البريطانية، وكان بإمكان الطالب في جامعة الخرطوم الانتقال إلى كيمبريدج من دون كلام وفي نفس المستوى الدراسي الذي بلغه.. ومع هذا فقد كان التلقين و«الحفظ» سبيلي الى النجاح فيها.
التعليم الجامعي أهم محطة في مسيرة الإنسان الأكاديمية، ولهذا فإنني أنصح كل من يستشيرني في أمر إلحاق عياله بالجامعات أن يبتعد بهم عن العالم العربي، وليس مرد ذلك سوء الظن بالأستاذ الجامعي العربي، بل بالنظام التعليمي العربي الذي يجرد الأستاذ من المبادرة والتجديد والخروج عن القوالب الجامدة، فالجامعات تدار بنفس الطريقة التي تدار بها مصلحة المجاري أو الأراضي: هرم إداري هرِم (بكسر الراء) وأخطبوطي كل همه تقصي الالتزام باللائحة، واللوائح كما نعلم درع العاجز ذي الفهم المحدود والقاصر، ولا يعجبهم في اللوائح إلا «لفت النظر» و«الاستيضاح» و«مجالس التأديب»، وهكذا يستطيع موظف ساقط في الشهادة الثانوية ويعمل في إدارة أي جامعة أن ينشف ريق البرفسورات، الذين سرعان ما يتعلمون أساليب المشي على العجين لضمان وصول الراتب سالما إلى الجيوب، وكما أنني لا أرى بأسا في تلقي التعليم الجامعي في الدول الأجنبية، فإنني لا أرى بأسًا في ما يسمى هجرة العقول، فـ«العقل» بحاجة إلى الرعاية والتقدير والأوكسجين وتخصيص الموارد كي يقوم بواجبه، وما لم يتوافر ذلك فإن العقل يبحث عن البيئة والمناخ الملائمين، ودول الغرب على نحو خاص تحتضن العقول والمواهب.. وأول سفير أمريكي لدى العراق بعد غزو الامريكان له درس في موطنه الأصلي أفغانستان ثم لبنان ثم ذهب إلى أمريكا للدراسات العليا فاكتشفوا نبوغه وصار محاضرا في الجامعات الأمريكية وسمعت به الخارجية الأمريكية فاستقطبته، ولو بقي في أفغانستان لربما أصبح في خبر كان، ولو بقي في لبنان لصار حائرًا بين ستار أكاديمي وقرنة شهوان!