د. ياسر محجوب الحسين

أمواج ناعمة :الخرطوم.. قصرٌ مَشِيد وبئرٌ مُعطلة

أمواج ناعمة :الخرطوم.. قصرٌ مَشِيد وبئرٌ مُعطلة
د. ياسر محجوب الحسين

أُعلن في الخرطوم عن (14) مرشحا لرئاسة الجمهورية، بالإضافة للرئيس الحالي عمر البشير.. المؤكد أن أحدا من هؤلاء المرشحين – عدا البشير – لا يحلم بدخول القصر الرئاسي الجديد الذي افتتح الأسبوع الماضي وسط مظاهر احتفالية مستفزة لجموع أهل السودان الذين يطحنهم الفقر طحنا.. الانتخابات الرئاسية المقررة في (13) أبريل القادم لا تعني المرشحين في شيء، فالترشح غاية عندهم في حد ذاته وليس وسيلة لدخول القصر.. فالأمر محسوم لصالح البشير مثلما مقاعد البرلمان محسومة لأعضاء حزبه الحاكم، بيد أن الجديد هذه المرة أن الحزب الحاكم “تفضل” بالتنازل عن (30%) من مقاعد البرلمان لمن يحب ويجتبي من الأحزاب الموالية والسائرة في ركابه.. فالرئيس البشير قال إن مشاركة الأحزاب في الانتخابات المقبلة تعد شرطا لمشاركتها في (كيكة) الحكم.

لهذا لم يعُد المرشحون يثيرون اهتمام الناس، فهم مهتمون بالترشح لأسباب أخرى، ليس من بينها السبب الذي ترشح من أجله البشير.. فالذي يثير الاهتمام اليوم ذلك القصر الفخيم الذي حل محل القصر الذي ظل قصرا لحاكم السودان لما يقرب من 190 عاماً.. في يوم الزينة، وكما طلب فرعون أن يحشر الناس ضُحى، ازدان القصر الجديد بحشود من نجوم المجتمع والسياسة وأطياف من عِلية القوم.. نعم في مساء الإثنين الماضي ووسط ألعاب نارية اخترقت صمت ليل فقراء الخرطوم البهيم وعلى مقربة من أحواض السباحة والأسماك الملونة، رفع البشير علم البلاد في القصر الجديد ونقل إليه مكتبه وكل متعلقاته إيذانا بتدشين فترة رئاسية جديدة لتُكمل عدد سنوات حكمه (31) عاما، حسوما وحسوما، كما وردت في القرآن تعني مُتتَابعَاتٍ أو مَشؤوماتٍ.. الخرطوم تقول إن القصر الجمهوري الجديد شُيِّد بمنحة من حكومة الصين في مساحة بلغت (18600) ﻣﺘﺮ ﻣﺮبع على مقربة من القصر القديم الذي سيتحوّل إلى متحف، ويتسع أيضا ﻻستضافة القمم الدولية، ويضم قاعات ضخمة ﻻستقبال الرؤساء الزائرين. وتزامن افتتاح القصر الجديد مع ذكرى تحرير الخرطوم في السادس والعشرين من يناير من العام 1885، ومقتل الجنرال الإنجليزي حاكم السودان وقتها جوردون باشا على أنصار الإمام محمد أحمد المهدي جد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي المعارض، حيث قطعوا رأس الرجل الذي مثل رأس الاستعمار في نسخته الأولى.. وفي آخر زيارة لوزير خارجية بريطانيا للسودان قبل عدة سنوات حرص مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية الأسبق أن يكشف للوزير البريطاني مكان مقتل أعظم جنرالات بريطانيا آنذاك.. ويسرد المؤرخ البريطاني فيرجس نكول مجهودات المهدي لحقن الدماء ومحاولاته إقناع جوردون بتسليم مدينة الخرطوم حين يقول: “لقد شرع محمد أحمد المهدي في حملة مراسلات مطولة امتدت لزهاء العشرة أشهر لإقناع جوردون بالعودة إلى بلاده مكرماً بدلا من إزهاق باقي عمره في الدفاع عما لا فائدة في الدفاع عنه”. في ذلك الوقت ضغط الرأي العام البريطاني بشدة لإنقاذ الجنرال جوردون، مما دعا رئيس الوزراء حينها جلادستون في مارس 1884 مخاطبة مجلس العموم البريطاني قائلا: “إن هذا الشعب يناضل من أجل حريته، ومن حق هؤلاء أن يناضلوا من أجل حريتهم”. وأغضب ذلك بالطبع صقور مجلس العموم بقيادة وزير الحربية اللورد هارينجتون.

بعد أن أخذ البشير وطاقم حكمه مكانهم في القصر الجديد يتساءل الناس عن مصير القصر القديم، البعض يقول إن الحكومة ترغب في أن يؤول إلى (اليونسكو)، إذا ما وافقت على تصنيفه كأثر تاريخي، لكن على ما يبدو أن القصر القديم لن يخلى بسهولة، فالجديد لا يقوى على استيعاب جيوش الدستوريين، حيث البذخ السياسي بموجب الشراكات والتسويات الحزبية والترضيات الجهوية. أي سيبقى فيه بعض المسؤولين الذين لم يحالفهم الحظ ليجدوا مكانا لهم في القصر الجديد.

صحيح أن المبنى الفخيم تم بمنحة صينية بتكلفة تعادل (235) مليون جنيه سوداني حوالي (26) مليون دولار، لكن السؤال الملح هو: لماذا تحولت المنحة الصينية لبناء هذا القصر في ظل أولويات كثيرة ونقص مريع في الخدمات الصحية والتعليمية لعموم الشعب السوداني.. من قبل تساءل الناس حول منحة من الحزب الشيوعي الصيني لبناء مقر فخيم لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وثار جدل حول مخالفة حزب المؤتمر الوطني قانون الأحزاب بتلقيه تمويلا أجنبياً.. ويمنع قانون الأحزاب أي حزب سوداني من قبول دعم خارجي أو تبرع مالي، والمفارقة أن حزب المؤتمر الوطني يوزع باستمرار اتهامات لمعارضيه بالعمالة للأجنبي.

على كُلٍّ شيد القصر وانتهى الأمر، لكن القصر لن يتمكن من إدارة الشأن السياسي السوداني المعقد إذا ما استمر حزب المؤتمر الوطني في إدارة البلاد بنفس النهج الإقصائي وأسلوب الدولة البوليسية، فيغدو القصر مشيدا والبئر مُعطلة.

yasirmahgoub@hotmail.com