المواطن الصحفي ..!
ربما تكون الحريات الصحفية قد اتسعت في الفترة الأخيرة – بحسب بعض قادة الرأي في الإعلام السوداني – وبصورة صريحة حيناً وضمنية أحياناً، ولكن المأزق – بحسبهم أيضاً – هو أن سقفها قد ارتفع جداً باتجاه ما يختص بالدولة وانخفض جداً فيما يخص الأفراد والأشخاص، فأصبحت المحرمات كلها حول صفات الأشخاص وليس الصفات الاعتبارية للدولة، كما ينبغي لهامش الحرية ولسقف المساءلة أن يكون .. فالخوض في الأوحال لفحصها وليس الاكتفاء بتصويرها من الشرفات هو جوهر العمل الصحفي ..!
كان هنريك أبسن – الكاتب المسرحي العظيم – يقول عن الفرق بين مقالات أميل زولا ونصوصه “هو” (زولا يغوص في المجاري ليستحم فيها، بينما أنا أغوص فيها لتنظيفها) .. هكذا اختزل الرجل بإتقان الفرق بين دور الصحفي الذي يكتب عن الواقع بصدق وقبح أحياناً، والأديب الذي يحوله إلى فنون جميلة ..!
وكلما لاح ضوء الصحافة الحرة، ذُكرتْ مقالات زولا الذي عرض مستقبله المهني للخطر عندما كتب مقالته الشهيرة (إني أتهم) والتي كانت رسالة إلى رئيس الجمهورية، نشرتها أهم الصحف الباريسية في صفحتها الأولى، على الرغم من كونها تتهم أعلى قيادات الجيش الفرنسي بمعاداة السامية وتكبيل العدالة، ذلك أنها حكمت على ضابط يهودي بالسجن المؤبد ظلماً بعد أن تم اتهامه زوراً بالتجسس، وقد كان هذا قبل أن تغير مقالة زولا مجرى المحاكمة جذرياً وإلى الأبد ..!
فانقسم الشعب الفرنسي بأكمله بين مؤيد ومعارض، وتم اتهام زولا بالتشهير،وقدم لمحاكمة جنائية، وحكم عليه بالسجن، ففر من البلاد وعاد إليها بعد سقوط الحكومة التي أدانته .. وكان من آثار مقالته تلك أن عرضت الحكومة الجديدة على الضابط اليهودي المظلوم عفواً مقابل اعترافه بالذنب أو أن تعاد محاكمته فقبل العفو رغم براءته خوفاً من الإدانة ظلماً من جديد .. لكن الصحافة الحرة أكلمت رسالتها وتمت تبرئة الرجل بعد سنوات من إطلاق سراحه، وبقيت مقالة زولا في أرشيف الصحافة العالمية شاهداً على الدور المفقود للسلطة الرابعة ..!
كل هذا جميل، لولا أن كتاباً جديداً قد صدر في فرنسا قبل فترة، يتناول التحولات الكبرى التي طرأت على الصحافة، ويقول لأصحاب هذه المهنة أنتم مهددون بالجلوس في بيوتكم لأن الصحف لم تعد مصدراً آمناً لأكل العيش ..!
فالصحافة – بحسب مؤلف الكتاب ورئيس التحرير السابق – لم تعد وسيلة إعلام جماهيرية بعد أن أصبح الجمهور نفسه هو الوسيلة الإعلامية، فالمواطن اليوم هو مصدر المعلومة وهو وسيلة إيصالها، وهو المتلقي أيضاً، إن لم يكن على صفحات الجرائد ففي عالم الانترنت الذي أصبح لا يصنع الثورات فقط، بل يحرسها أيضاً ..!
أرشيف الكاتبة[/JUSTIFY]