د.عبد الوهاب الأفندي

لماذا يكذبون؟


(1)
لم يكن المستغرب في مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد التي أذيعت الثلاثاء الماضي على البي بي سي ما كشفته من أن الرجل –إذا أحسنا به الظن- يعيش في عالم غير الذي نعرفه، ويسكن سوريا لا وجود لها إلا في خياله. ولكن المستغرب حقاً مجرد أن يظن الرجل أن لديه ما يقوله لقنوات إعلامية دولية ولا يشكل إدانة له. فهل يعقل وجود شخص تتلبسه الأوهام بهذا الشكل، بحيث لا يدري أن كل طفل في سوريا وكل مشاهد تلفزة في العالم يعلم أنه يلقي براميل الغدر والوحشية على شعبه، ويقتل الواقفين في طوابير الخبز، ويمنع الغذاء عن شعبه في اليرموك ودوما والغوطة؟ فكيف خيل له أن العالم سوف يكذب أعينه وكل السوريين ويصدق ترهاته؟

(2)
يهرب الدكتاتور من الحقيقة إلى المنطق المعوج شأن الفيلسوف الاغريقي زينو الذي افتى باستحالة الحركة على أساس أحجية منطقية مغلوطة، فيدعي أنه لا يمنع القوت عن مناطق المعارضة، بدليل أن القوم لديهم سلاح، وكان الأولى منع السلاح لو كان بإمكانه. وعليه فإن مسؤولي الأمم المتحدة يكذبون حين يؤكدون أن قوافلهم منعت عشرات المرات من العبور. نعم المنطق هذا، رغم أن سيادة الرئيس لم يخبرنا متى استأذنه الثوار في نقل الأسلحة ومنعهم كما يمنع قوافل الإغاثة التي تأتي البيوت من أبوابها؟

(3)
يذكرنا هذا التذاكي المفرط الغباء بشركاء الرجل في محور الشر في داعش المصرية، عفواً النظام المصري. فحين أطلقت داعش المصرية أسيرها الصحافي الأسترالي بيتر غريتسي (ولا ندري أي فدية دفعت وراء الكواليس مقابل ذلك، ولمن دفعت) في تزامن مع حرق داعش أسيرها الأردني، زعم الزاعمون أن هذا هو عين حكم القانون. ألم يصرح الزعيم من قبل بأن يديه مغلولتان لأن قضاء مصر الشامخ قال كلمته؟ ثم ها هو يصدر بصفته المشرع الأوحد، «قانوناً» يحرر يديه المغلولتين ويتيح له تحرير الرهائن وإبعادهم إلى بلادهم حتى «يقضوا فترة محكوميتهم هناك». على من يضحك هؤلاء الناس يا ترى؟ ومتى قدمت السفارة المصرية في كانبيرا احتجاجاً قوي اللهجة لأن الحكومة الاسترالية أطلقت سراح السجين الذي يقضي محكوميته في سيدني دون إذن القضاء المصري الشامخ؟
(4)
لا نحتاج في العالم العربي إلى كوميديا ومهرجين ما دامت عندنا نشرات الأخبار. فقد تابعت في إحدى الفضائيات صحافياً مصرياً –واسمحوا لنا باستخدام المجاز هنا، فليس كل من ادعى أيا من الصفتين ممن تنطبق عليه أي منهما- يحتج بأن القضاء المصري لا يراجع ولا يعلى عليه. ويسوق دليلاً على ذلك أن الدول الغربية تمتنع عن تسليم المطلوبين لنظام السيسي بحجة أن القضاء هناك يمنع تسليمهم. ولا نريد أن ندخل مع الرجل في مماحكة حول مقارنة القضاء المصري بقضاء بريطانيا والولايات المتحدة، حيث يمكن سوق رئيس الوزراء ومن دونه صاغرين إلى ساحات المحاكم. ولكن يبدو أن الرجل لا يدري أنه حكم بما ساقه على نفسه وقضائه، لأن القضاء في الدول الغربية حين يحكم بمنع تسليم شخص يفتي بأن البلد التي يساق إليها غير مستوفية لشروط العدالة ولا يوجد فيها قضاء نزيه!!

(5)
لا يخيب زعيم داعش اليمن وجلاوزته أملنا وهم يتبرعون لنا بانتظام بالتسلية المجانية في هذه الأيام العصيبة. فقد طلع علينا كبيرهم الذي علمهم السحر ليعلمنا –وما أكثر ما نجهل- بأن «الشعب اليمني العظيم» هو الذي صاغ الإعلان الدستور المزيف، وأن الساسة في كل الأحزاب تآمروا على «الشعب العظيم»، وأن عليهم اللحاق بركب «الشعب العظيم». أما متحدثه الذي وصفه بعض ما شاركه الحوار صادقاً بأنه «صحاف» اليمن، فقد قال في جلسة واحدة أنه قدم لخصومه كل التنازلات، ثم أضاف إنما على هؤلاء ثرنا لفسادهم وعدم كفاءتهم. وما لا نفهمه هو إذا كان «الشعب العظيم» ثار وحكم وقرر، فلماذا يحتاج إلى الفاسدين والمفسدين كي يلحقوا بركبه؟ ومع من يا ترى يتحاور «الشعب العظيم»، وما حاجته لذلك، وهو الشعب الحاكم؟

(6)
يمكن أن نعدد إلى ما لا نهاية ظواهر الكذب على الذات والله والعالمين من قبل غالبية من يتصدون إلى الزعامة في الأمة الإسلامية المنكوبة بهم. فهناك «مقاومون» يستأذنون العدو في مهاجمته، ثم يطلبون منه مهلة حتى يفرغوا من عدو مشترك، كأن المسألة مباراة كرة قدم! وهناك طائفيون يلعنون الطائفية، وطغاة يخطبون عن فضائل الديمقراطية ومحاسن العدل. فلماذا ابتلينا يا ترى بهذه المصيبة العظيمة التي جعلت ولاية أمرنا لمحور الكذابين؟
(7)
لا شك أن ذلك بما كسبت أيدينا. ولكن العزاء هو أن الكذابين يعترفون ضمناً بأنهم على الباطل، وإلا لما خجلوا من حالهم ولاذوا بالكذب على أنفسهم. وهذا على الأقل مبشر بأنهم على علم بأهدى الطريقين التي يتنكبون، وعلى وعي بأنهم لا يطيقون مواجهة الحقيقة عن أنفسهم وعن سوء أفعالهم. فعسى ولعل أن تصحو ضمائرهم يوماً، وفي الغالب بعد فوات الأوان لهم ولضحاياهم. ولكن الأوان لا يفوت أبداً على عدالة السماء، عاجلها وآجلها.