مواهب مندثرة
وهنا يجوز لي أن أتخذ مثالا واضحا وهو أن طفل الأكروبات لم يكن يدرك أن هناك أكروبات في الدنيا لكنه وضم للفرقة بمعيار الليونة والعمر وبعد التدريب عاد لنا وكأنه قطعة من المطاط اللين حتى أدهشنا .. وفرقة الأكروبات السودانية مثلا من مناطق وبيئات مختلفة من السودان لم يكن اللعب الأكروباتي فرعا معروفا فيها .
وبذات الترتيب فإن الهواية لا تعود إلى مواهب يولد بها الإنسان وفق فطرته .. تماما مثلما لا يوجد لاعبون موهوبون منـــذ ميلادهم ذلك أن اللاعب يولد في بيئة معينة تسيطر عيها ممارسات معينة تختلف عن البيئات الأخرى وتتميز بسمات وخصائص خاصة .
كأن تكون في منطقة معينة فيها لعبة معينة هي التي تسيطر على الناس .. فالذي يولـــد في بنغـــلاديش أو الهند والباكستان مثلا لا يمكن أن تكون كرة القدم مثلا هي اللعبـــة التي تستهويه في المقام الأول وبالتالي سيتحول إهتمامه الى (( الكريكت )) باعتبارها لعبة شائعة في محيطة وباعتبار أن العقل الجمعي يتجه إليها هناك وسينمو حبـــه وتتفتح مواهبــة وملكاته المكتسبة من خـــلال التفاعـــل مع لعبته الشائعة ..
لكن الكثيرين يعتقدون أن الموهبة هي المحرك الأول للتفوق وهذا خطأ شائع بين الناس لأن ابن الرسام يعشق الرسم لأن محيطه هو الذي أثر فيه وتفتحت مداركه فيه ولأنه تشرب دونما إختيار وربما مارس الرسم وتفوق فيه عن القرناء الذين هم في سنه لأنهــم مازالوا بعـــيدين عن لحظة الممارسة وتحديد الميول .
لكن الأهم في مشوار الطفل قبل كل هذا هو التشجيع الذي يتلقاه من البيئة المحيطة والذي يمكن أن يصنع منه لاعبا متميزا بل ويعطيه القوة الدافعة للتطور والتقدم في اللعبة التي يحبها حتى يبرز فيها .. لكن الكثيرين لا يدركون هذه الحقيقية التربوية فيتفلت الأطفال من الممارسة ويتساقط الكثيرون منهم بسبب سؤ إدارة العملية التدريبية التي هي في أساسها عملية تربوية في المقام الأول .
كذلك فإن التشجيع الأسري ينبغي أن لا يكون في الممارسة الرياضية وحدها بل في مختلف أنماط المواهب فإن بدت لهم أن هناك اهتمامات فنية معينة كالرسم أو التلوين وغير ذلك حيث وجب عليهم أن يتعاملوا معها على نحو واع حتى لا توأد في مهدها .
بهذا المنطق تحتاج عملية التدريب والتوجيه الى تربويين من نوع خاص يتعاملون مع هؤلاء الناشئين بفهم عميق لطبيعتهم العمرية ولظروفهم والمحيط النفسي الذي يؤثر فيهم للدرجة التي تمكنهم من حب اللعبة والتوجه نحوها برغبة وحب .. لكننا للأسف الشديد لا ندرك هذه الحقائق الجوهرية مما يجعل الفاقد الموهبي أكبر من التفوق .
ولعل السبب وراء ذلك بيّن وجلي .. ولا يحتاج الى توضيح وتبيان حيث أن أغلب الذين يتصدون لهـــذه المهمة التربوية هم في الأصل من الفاقـــد التربوي والذي يمكن إعتباره من الناحية التربوية والفنية بعيد كل البعـــد عن هـــذا الجانب مما يشكل هـــذا الأمر فشلا ذريعا للعملية التدريبية في مهدها لأن فاقد الشيء لا يعطيه .
بل أنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين في المجال المعرفي لأنهم يفتقدون الى الوعي الثقافي الذي يتيح لهم مرونة التقييم وإدارة العملية التدريبية التي تعتمد على فهم عميق بنفسية الناشيء من جانب وتنمية ملكاته من جانب آخر لأن معظم المدربين في الساحة وهم (( قدامى اللاعبين )) لم يكملوا دراساتهم الأكاديمية .
وبنظرة سريعة الى خارطة التفوق عند الناشئين ومدى تقدمهم في مشوارهم سنلحظ أن الموهوبين لا يجدون فرصتهم للوصول الى الأندية وفق خطوات منطقية وعلمية ومؤسسة بل أن عملية تقدمهم وإلتحاقهم بهذه الأندية إن تمت .. تتم بأساليب يغلب عليها الجانب العشوائي .. كما يلعب الحظ فيها دورا كبيرا .. بل أن للعلائق الأجتماعية دور بارز في ذلك .
والمحصلة النهائية في غالب الحالات أن كثير من الموهوبين يتساقطون في الطرقات والحواري بينما يجد أنصاف اللاعبين وغير الموهوبين حظهم إلى الدرجات والأندية العليا .. ولو نظر كل واحد منا الى ابرز الموهوبين الذين كانوا حوله إبان طفولته سيجد أنهم تاهوا في زحام الحياة دون أن يعبأ لهم الناس ..
كثيرون يقولون أنهم يتمنون أن يروا أبنائهم وهم متفوقون في الممارسة الرياضية لكنهم لا يتيحون لهم ما ييسر الطريق إلي ذلك .. بل أنهم كثيرا ما يحولون بينهم وبين الممارسة والتفوق فيخلقون قدرا من التنازع والتشتت في دواخل الأبناء مما يخلق هوة شاسعة بين التمنى والمنع …
وبالتالي ينشأ الطفل الموهوب بين نارين .. فمن جانب يرى أن أبواه وأهله يودونه متفوقا في الرياضة .. ومن جانب آخر يمنع عن مزاولة هذه الرياضة بالقدر الذي يمكنه من التميز والتفوق .. ولعلنا إن سبرنا غور هذه المعضلة سنجد أن عدم الثقة في محيط الممارسة هو السبب المسكوت عنه والذي يجعل الآباء يحجمون عن إرسال أبناءهم الى الملاعب للتدريب لأن المجتمع الرياضي موصوم بالسوء ويعج بالممارسات وسوء السلوك .
لكن ثمة قضية أخرى أيضا لا تقل أهمية عن التشجيع الذي تحدثنا حوله وهو التعامل الأسري مع الطفل والتي يجب أن تكون على وجه يجعل هذه الممارسة حق مشروع ذلك أن الأسر في الغالب الأعم تكون قلقة على أن يتغلب جانب الممارسة على التحصيل الدراسي وهذا قلق مشروع طالما أن التنسيق بين المجالين معدوم تماما والرؤية فيها ضبابية للحد البعيد .
أو تعالوا بنا نفكر في النادي الأسري الشامل .. الذي يجعل الوالدين جزء من الحضور اليومي الذي يجعلهم يراقبون الأبناء وهم يمارسون تدريباتهم في وسط أسري يجعل الرقابة شاملة وعامة وبضابط اجتماعي يجعل العلاقة متبادلة في جو صحي معافى .
وهناك قضية أخرى أكثر أهمية من سابقاتها وهي طالما أننا لا نملك مؤسسات علمية للتفريخ لماذا لا نفكر في الاستفادة من المدرسة والنشاط المدرسي في عمليات التفريخ .. ذلك أن القوة البشرية المدرسية هي في المقام الأول تربوية من الدرجة الأولى مما يجعل النقص فيها يكمن في الجوانب الفنية والتجهيزات الرياضية وهذه يمكن توفيرها بجهود قليلة .
وهنا نسأل عن دور كلية التربية الرياضية التي تجاوزت في عمرها العقد الرابع .. ولم يستبين لنا أثرها في الواقع لماذا لا نستخدمها في ضخ المدربين والمدرسين الذي يقدمون لهذه المدارس الكوادر الأكاديمية المؤهلة في التدريب وفق خطة تدريبية محكمة ؟؟
وهنا كان ينبغي للمدرسة باعتبارها مؤسسة تربوية أن تقوم بهذه الوظيفة الحيوية حيث تؤهل الناشئين وفق منهاج معد من قبل وزارة التربية والتعليم يمنح الطالب بعض الدرجات عندما يتفوق في المهارات المختلفة ..
قد لا نختلف أبدا في أن النهضة الرياضية المرجوة في السودان يجب أن تكون من خلال الإهتمام بالناشيئن ليكونوا شريانا يضخ بالدماء الحارة في وريد الرياضة حتى يستمر البناء متواصلا .. لكننا ولتغلغل كثير من المفاهيم العتيقة في عقولنا نظن أن اللاعب الجاهز .. أكثر فائدة من الناشئ الذي يحتاج الى صبر كثير .
ولعلنا سنحتاج إلى تغيير كثير من الوجوه الإدارية والإعلامية حتى نغير ونشيع ثقافة جديدة تعتنق نهج التطور والنماء بدلا من هذا العك الكروي الذي نصفه زورا بالممارسة الرياضية .
ولنا عودة .
——————
ملء السنابل تنحني بتواضع …….. والفارغات رؤوسهن شوامخ
—————–
صلاح محمد عبدالدائم شكوكو
shococo@hotmail.com