سياسية

الجيش الشعبي: (مافي زول داير الشكلة) مع القوات المسلحة

نفى الفريق سلفا ماتوك مسؤول الترتيبات الأمنية عن الحركة الشعبية، الإتهامات الموجهة لجوبا بتطوير الجيش الشعبي للإنقضاض على الشمال. وقال سلفا لـ «الرأي العام»: لا نهدف لزيادة قواتنا، فالجنوب لا يحتاج لجيش كبير وإنما جيش مؤهل للدفاع عنه، وأضاف: (ما في زول داير الشكلة)، ورحب ماتوك بعودة مسرحي القوات المسلحة من أبناء الجنوب لوطنهم الأم، وأكد إستعدادهم لإستيعاب من يفوته (قطر الجيش) ببقية الأجهزة النظامية للإستفادة من خبراتهم التراكمية، واستبعد سلفا أن يلاقي المسرحون معاملة سيئة لقتالهم مع القوات المسلحة إبان الحرب الأهلية، وقال بتفهم: (دا جنا بتاعنا، وكان بيتبع الأوامر والتعليمات).

العبارة العسكرية الشهيرة التي كنا نسمعها كلما هممنا بمغادرة معسكر الخدمة الوطنية صوب أهالينا نهار كل خميس في سنين قد خلت كانت (البتسمعوه هنا تحفروا ليهو حفرة وتدفنوه فيها) ما يدّل على حرص مدربينا على ضرب سياج محكم من السرية على ما نتلقاه من دروس وتدريبات. ذلك رغماً عن تأهيلنا البسيط الذي لا يرقى بحال لدرجة حفظه في الصدور!! ما جعلنا نخرج لاحقاً بحقيقة وحيدة مفادها تفرد المؤسسة العسكرية بقيم وتقاليد راسخة، تمس في تطبيقها -كثيراً- حدود الصرامة وتُلخص في كلمتين فقط هما (الضبط والربط).
وتعد المؤسسة العسكرية نسيج وحدها وما من سبب سوى العقليات التي تديرها بدقة (الساعة)، وكما في عنوان كتاب شهير (الرجال من المريخ والنساء من الزهرة) فإن القوات المسلحة وبما تملكه من موروث ضخم قادمة من كوكب آخر، ذلك بافتراض أن الخدمة المدنية كائن أرضي. وبالتالي بحسب آراء عدد من العسكريين أستقيتها من أحاديث معهم فإن لحظة إحالتهم للمعاش تعتبر علامة فارقة في حياتهم يتقبلها عدد قليل منهم بصبر الصدمة الأولى، بعدها يشرع في التعرف على الحياة المدنية بإحساس كولمبوس وهو يطأ الدنيا الجديدة. بينما يصاب البقية بحالات اكتئاب شديد جراء عدم قدرته على الاندماج في سلك الحياة العامة لافتقادها جزئيا قيم الالتزام وطاعة الأوامر ما يجعلهم في نهاية المطاف ينحون لممارسة هواياتهم وتطبيق ما تعلموه من قيم داخل أفنية منازلهم دائمة الخضرة.
ذات الأحاسيس السابقة، قد يجد (20) ألفاً من أبناء الجنوب المنضوين في سلك القوات المسلحة أنفسهم قبالتها بعد تاريخ التاسع من يوليو المقبل – أجل نهاية الفترة الانتقالية- وذلك بخروجهم عن نطاق الخدمة العسكرية أستناداً الى خطة موضوعة كشفها الفريق أول ركن مهندس عبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع. الخطة التي وصفت بـ (المهمة) تقول باسقاط حق العمل بالقوات المسلحة لأبناء الجنوب مع تسريحهم بصورة راقية، وأعطائهم حقوقهم كاملة ليغادروا البيت العسكري معززين مكرمين. وفيما تعتزم الوزارة اقامة احتفال كبير على شرف مقاتليها القدامي اكراماً وعرفاناً بجهودهم الكبيرة، دعت حكومة الجنوب للإفادة من خبراتهم وبالتعبير الذي لم يُقل بواحاً (استيعابهم).
ولا يمكن بحال وصف خطة الوزير بالمفاجأة، فلجان الشراكة ظلت في حالة انعقاد دائم لمعالجة قضايا ما بعد الاستفتاء وأبرزها الترتيبات الأمنية. وبما أن نتيجة الاستفتاء الأولية أفضت للانفصال فهذا يعني أن من يشملهم تعريف المواطن الجنوبي في قانون الاستفتاء هم مواطنو دولة جارة ما يستوجب تقنين أوضاعهم بناء على المستجدات التي تطرأ.
ومع الاستشكال الحاضر في قضية المواطنة، يقول العديد من الخبراء إن المؤسسات العسكرية غير معنية بالاستثناءات المقدمة من قبل السياسيين لجنوبيي الشمال. ويطالبون بالمحافظة على الكادر الوطني فقط (الكادر الموجود في نطاق دولة الشمال) بداخل المؤسسة المنوط بها حماية الدستور والبلاد.
وعن دواعي الخطة، أثنى مصدر حادثته (الرأي العام) بما جاء فيها وقال إنها تقطع الطريق أمام أي تسريب لمعلومات تندرج تحت بند (السري للغاية) لدولة أخرى. وأضاف: يجب المحافظة على عقيدة الجيش بأبناء الوطن نفسه. ولكن للواء فيصل مسعود الخبير العسكري وجهة نظر مغايرة تقول بعدم تطبيق القرار السياسي على جميع الفئات وإن أكد احترامه لما تخرج به لجان الشراكة القائمة على ركائز (نيفاشا) وقال لـ (الرأي العام): كنت أستحسن تخيير العسكريين الجنوبيين في أمر بقائهم أو ذهابهم مع الاحالة الفورية لمن يصل منهم لسن التقاعد. ليكون ذلك ضمانة لاستمرار أواصر العلاقات بين الشمال والجنوب، مستبعداً سيناريو التجسس لكون أبناء الجنوب في القوات المسلحة خدموا في كل الجبهات بما فيها الجنوب ذاته إبان الحرب الأهلية.
ذات رؤية مسعود بالتخيير ساندها العميد أمن متقاعد حسن بيومي رجوعاً للتجربة السودانية المصرية في العام 1955م. ولمزيد من التوضيح، الوصول لذات نتيجة خطة وزارة الدفاع عبر السير في طريق قصير يسهل عودة البلاد سيرتها الأولى بحدود المليون ميل مربع كما يرجو الكثيرون. فكما عاد معظم الكادر العسكري السوداني العامل في مصر قبل الاستقلال لصفوف الجيش السوداني بحسب حديث بيومي لـ (الرأي العام)، سيسارع معظم أبناء الجنوب للانضواء تحت لواء الجيش الشعبي المحتاج لخبراتهم ما يعطيهم وضعاً مائزاً جداً، هذا أن لم تغرهم التسويات المالية الضخمة في خلع بزات القوات المسلحة والاتجاه للتكسب من التجارة والأعمال. وبالتالي فإن المعالجتين تعنيان تسريح أبناء الجنوب من الجيش السوداني وهو ما تعتزمه وزارة الدفاع ولكن مع الاختلاف في الطعم. فخطة الوزارة قد تصيبهم بغصة في الحلق جراء ما يعتبرونه نكراناً للجميل، على عكس المعالجة الثانية التي تجعلهم بمثابة الفائزين.
وقلل بيومي من مسألة خروج (20) ألف مقاتل ، وأعتبر ذلك بالفرصة التاريخية لتحديث القوات المسلحة ورفدها بالكادر المؤهل القادر على التعامل مع أحدث الأسلحة والمعدات داحضاً في ذات الوقت أن ترهق عملية التسريح خزينة الدولة لكونه أمراً تتحسب له الموازنات العامة مسبقاً.
وبالانتقال جنوباً، وعن أمكانية إستيعاب أفراد قاتلوا الجيش الشعبي لفترة ما، داخل جيش الجنوب استفسرت (الرأي العام) الفريق سلفا ماتوك الضابط السابق في صفوف القوات المسلحة ورئيس لجنة الحركة الشعبية المسؤول عن الترتيبات الأمنية حالياً. سلفا أعلن ترحيبه بعودة أبناء الجنوب لصفوف الجيش الشعبي للأستفادة مما اكتسبوه من خبرات ضارباً المثل باللواء آرنست الذي كان معلماً سابقاً في وادي سيدنا بينما هو اليوم ضابط كبير في صفوف جيش الجنوب . وأبدى سلفا روحا تسامحية كبيرة تجاه أخوته ممن وقفوا قبالته في الخنادق وقال: (دة جنا بتاعنا، وكان بيسمع الأوامر والتعليمات).
ولكي لا يترك باب الحلم بالانضمام لجيش الجنوب مفتوحاً على مصراعيه أشار الفريق سلفا ماتوك الى أن عدداً من العسكريين القادمين للجنوب سيتم توزيعهم على وحدات نظامية غير الجيش كالسجون والمطافيء وغيرهما، بينما سينعم بعضهم بمعاشه ومخصصاته المالية التي قال انهم حريصون على وصولها لأياديهم بانتظام. بينما سيكون أمر الانضمام لقوات الجنوب خاضعاً لما تفرزه الموازنة العامة والمعايير التي تضعها القيادة. وقال إن الأخيرة لا تهدف لزيادة القوات كون الجنوب لا يحتاج لجيش كبير وإنما جيش صغير مؤهل للدفاع عنه نافيا سعيهم الاستعداد ليوم كريهة مع الشمال بالقول: (ما في زول داير الشكلة) مشددا أن معظم الموازنة ذاهبة لعمليات الانماء والتعمير. وأنهم بانتظار الإخطار الرسمي، وتبادل القوائم والمعلومات بين الجنوب والشمال إنفاذاً للترتيبات الأمنية التي يقف هو شخصياً على سدتها.
وعن امكانية تحول العشرين الف مسرح لخميرة عكننة في الجنوب والشمال على حدٍ سواء اتصلت (الرأي العام) ببروفيسور بول دينق الأكاديمي والمحلل السياسي. دينق أبدى شكوكه حول قدرة دولة الجنوب على احتواء كل ذلك القدر من المقاتلين. ما سيدفعهم – أي المقاتلين- إلى بناء تحالفات وخطوط سياسية، ستتحول بمرور الأيام لمليشيات عسكرية تحارب الحركة الشعبية الحاكمة بدعم من الأحزاب المناوئة لها والمجموعات المتمردة عليها وبالطبع يبرز هنا اسم الجنرال جورج أطور، وأكد بروفيسور دينق دنو ذلك السيناريو نتيجة اصرار الحركة على إبعاد معارضيها.
الوضعية القاتمة التي رسمها البروفيسور، ستلقي بظلالها – حتماً- على الشمال، مع استبعاد سيناريو تكتل المسرحين في مليشيات تعمل ضد الشمال لسببين الأول: أن معظمهم سيعود أدراجه جنوباً، والثاني: أن من يبقى منهم ستكون له الرغبة في البقاء الدائم وبالتالي لن يخرق قوانين دولة اقامته. إذاً فالظلال القاتمة ستدخل حسب رأي دينق مع أندلاع المواجهات في الجنوب، ما سيدفع بعدد كبير من اللاجئين وليس النازحين لتخوم الشمال هذه المرة، وربما يؤدي تبادل الاتهامات بين جوبا والخرطوم بدعم الجماعات المتمردة إلى حرب شاملة لا تبقي ولا تذر بين الدولتين السلف والخلف.
غير أن الفريق سلفا ماتوك اختار للجنوب درب السلام والسلامة، بتأكيده حرصهم اقامة علاقات سلمية مع الشمال، والعمل على تماسك الصف الجنوبي من خلال الحوار وقال إن باب الحوار لا يزال مفتوحاً مع الجنرال أطور، الذي بشّر بقرب عودته لصفوف جيشه الأم، بجانب سعيهم الجاد بالتشاور مع دول الجوار للتعامل مع جيش الرب اليوغندي.
وبعيداً عن العسكرة، نقلت (الرأي العام) مخاوفها لجوزيف نقيري عضو برلمان الجنوب من احتمالية سوء المعاملة الذي يمكن أن يقابل به عسكريي الجنوب في القوات المسلحة وسط أهلهم ومواطنيهم. نقيري نفى ذلك بشدة وقال إن دولة الجنوب بحاجة لتضافر جهود كل أبنائها دونما استثناء وأبدى تفهمه لمسألة انضمام جنوبيين للقوات المسلحة على أعتبار ان الأمر كان يتم ضمن حدود الدولة الواحدة.
على كلٍ، يشكل انضمام (20) الف كادر عسكري لجيش الجنوب (اذا حدث) نواة لبناء قوات عالية التأهيل تعمل على استمرار السلام والحفاظ على عش الدولة الجديدة التي تستهدفها الدول (الجارحة). وفي المقابل فإن ذلك يتيح الفرصة لارتقاء وتحديث القوات المسلحة بجانب اتاحة فرص عمل لمجموعة كبيرة من الشباب العاطل عن العمل في الشمال.

الراي العام