تحقيقات وتقارير

الإسلاميون في السودان .. من التأسيس إلى الانفصال

كتب الكثيرون من الباحثين والمهتمين بالشأن السوداني ومسيرة تطوره السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي على خلفية تاريخية أو من خلال التجربة المعاصرة من داخل السودان وخارجه، كتبوا بعمق عن هذه القضايا سواء انضوت تلك المساهمات تحت مراكز بحثية ودراسية متخصصة أو كانت لشخصيات اعتبارية انطلقت من جهدها الشخصي .
—-

الكثيرون من الباحثين السودانيين تأثروا في الكثير من الأحيان باتجاهاتهم الفكرية وميولهم السياسية اللهم الإ من أراد أن يتميز بنهج علمي أكاديمي مستقل الى حد ما ، وبالنسبة لغير السودانيين فإن إسهامهم في الغالب الأعم يجانبه الصواب الإ القليلين منهم لأنهم إنطلقوا فيما خطت أقلامهم بما أتيح لهم من معرفة أوبحوث أو معلومات عن السودان ، لكن بعض هذه المراكز البحثية المعروفة تستكتب بعض السودانيين فيخرج إسهامها مقبولا بغض النظر عن مدى اتفاقك مع مضمون ما أصدرت من عدمه لكن إنتاج هذه المراكز يرتبط بزاوية التناول أوالوجهة التي جعلت مركزا ما يهتم بالموضوع محل البحث.
الكثيرون من الباحثين أو لنقل كذلك بعض المفكرين سجلوا إسهامهم عن نجاحات وفشل تجربة الحركة الإسلامية السودانية بما يشبه تقييم التجربة أو لنقل ممارسة نقد الذات ،إن تجربة الحركة الإسلامية السودانية التي خضعت للتقييم والنقد حتى من داخلها، شهد لها المراقبون بأنها الأكثر تنظيما وفاعلية من بين حركات العالم الإسلامي ، وأنها استطاعت أن تنجز ما لم تبلغه الحركات الأخرى، التي نشأت قبلها أوبعدها. بل إنها وصلت إلى الحكم ومفاصل الدولة بقدرات ذاتية مميزة، ونجحت في إختبارات الصبر، وتحقيق الكثير من التطلعات التنموية للسودان ، هذا بالرغم من الأخطاء التي صاحبت الممارسة على الصعيدين الداخلي أوالخارجي وهو ما يراه الكثيرون بأنه أمرطبيعي لأية تجربة بشرية تتعامل مع تعقيدات كالتي يعيشها السودان محليا واقليميا وأخرى عالمية لا فكاك عن التعاطي معها ، وتكرّم عدد من الإسلاميين بكتابة مراجعات نقدية موضوعية لتجربة الحكم بأسلوب منطقي، ينطلق من الحرص على النجاح ، بينما البعض يخرج سهمه من التجربة بشكل كلي ، بل ويصوب نحوالهدف الذي كان يتبناه يوما ما .
سقت هذا الحديث لسبب واحد وأرى أنه جدير بالمتابعة ، ذلك لأن الإهتمام بقضايا السودان على مستوى العالم والمحيط الإقليمي وحتى المحلي لم يعد مجرد حدث سياسي أوإقتصادي أو إجتماعي تتناقله وسيلة إعلامية ما ..صحيفة كانت مغمورة أو ذائعة الصيت ، إذاعة محلية أو دولية ، محطة فضائية هنا أو هناك ، لكن الأمر أضحى محط أنظار مراكز الدراسات البحثية والعلمية التي تمتلك وسائل الإنتاج والقدرة على النشر والتوزيع ولايعوزها أن تسكتب أهل الرأي والتخصص من المفكرين والباحثين في أي شأن.
وأنا أكتب هذه الكلمات وبين يدي دراسة مهمة صدرت في ديسمبر 2010 عن مركز (المسبار) للدراسات والبحوث في شكل كتاب تحت عنوان « الإسلاميون في السودان من التأسيس إلى الإنفصال « والكتاب يأتي ضمن سلسلة شهرية يصدرها المركز الذي مقره دبي بالامارات العربية المتحدة ، وأسهمت في تحرير الكتاب مجموعة من المؤلفين وقدم له رئيس المركز الإعلامي السعودي تركي بن عبدالله الدخيل الذي يصف العمل بالمركز بأنه أشبه بمسبار فضائي خارج الكرة الأرضية يصور كل ما يحصل على الأرض، ولكن بدلا من أن يمنح القارىء صوراً فوتوغرافية عن جغرافية الأرض فإنه يمنحه رؤية علمية متماسكة عن واقع ونشاط الحركة الإسلامية في العالم، كما يمنحه قياساً متوازناً لهذه الحركات بتاريخها ورموزها وأفكارها، وهو المعنى الآخر للمسبار حسبما جاء في علم الكلام الإسلامي حول «السبر والتقسيم « ويضيف الدخيل أن رئيس المركز أشبه بقائد الأوركسترا، يقود الموسيقيين بحركات بسيطة غير أن كل عازف منهم يجيد العطاء على آلته الخاصة أكثر من القائد، لذلك وظيفة الرئيس هي فقط التأكد من عدم خلط سيفمونية معينة بواحدة أخرى، أما مؤلف موسيقى المسبار الوحيد فهو الواقع (بمساعدة التاريخ أحياناً).
جاءت الدراسة الكاملة لمركز المسبار للدراسات والبحوث: (الإسلاميون في السودان من التأسيس إلى الانفصال)، قبل أن يدلي أهل الجنوب في يوم الأحد التاسع من يناير من العام 2011 بآرائهم في الاستفتاء الذي قرر مصير جنوب السودان، بعد عشرين عاماً قدم فيها الإسلاميون تجربتهم في الحكم وقد انجلى الموقف بانفصال الجنوب كما هو معلوم .
أحد عشر موضوعا بحثيا انضوت تحت عنوان الكتاب ، الموضوع الأول « الهوية السودانية والتيارات الإسلامية « قدمها السياسي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل حاتم السر علي تناول قضية الهوية، وتقصى فيها تقاطع الهوية السودانية مع التيارات الإسلامية التي برزت في القرن الماضي وتفاعلها معها، وامتياز المجتمع السوداني بالتنوع الإثني والثقافي الحميد، وسرد تاريخ التيارات الإسلامية في السودان ورؤيتها للتغيير الاجتماعي، وأثرها على التكوين الديني والاجتماعي في الشمال، وأشار حسب رأيه لما اسماه محاولات الإسلاميين أسلمة الجنوب إثر تسلمهم للسلطة ، لكن حاتم في دراسته لم يشر إلى الدعم الكنسي الذي كانت تتلقاه الحركة الشعبية وقت الحرب ، ولم يتناول إسهام أو طرح الأحزاب التقليدية ومنها الحزب الإتحادي الديمقراطي (حزبه) وحزب الأمة وهما جزء من النسيج الإسلامي الواسع في السودان فلم ولن ينسى الناس شعارات ( الجمهورية الإسلامية) و(الصحوة الإسلامية) وإن مرت عليها سنوات ، لكن حاتم يضيف في بحثه « الهوية السودانية والتيارات الإسلامية قائلا: (إسلاميو السودان اليوم وبعد تجربة طويلة ، أضحوا ناضجين بما فيه الكفاية لاستيعاب التعدد وتغيير الطرح القديم والاستفادة من التجارب العالمية التي دخلت في المجتمع واحترامه ونبعت منه بالإصلاح ، لذلك وبحكم وجودهم في السلطة يقع عليهم وعلى منظريهم السعي الجاد لتمكين احترام الآخر، ومعالجة مواطن إقصاء الآخر ، وبسط الحرية ، ويقطع حاتم أن على الإسلاميين في السودان علاج (الشرخ الكبير- بحسب وصفه) الذي حدث في الهوية السودانية الذي ساهمت فيه بشكل كبير الحركة الإسلامية بحسب ما جاء في دراسته .
4152011103931AM2 تاريخ التصوف في السودان، أوجزته دراسة عمر حمد وقارنت الدراسة بين الختمية والأنصار ممثلة في الثورة المهدية وطريقة تعاطيهما مع الاحتلال ودوريهما في تكوين نسيج اجتماعي قوي، والأثرين الاجتماعي والسياسي للطرق الصوفية، ودور أقطابها في الحركة الوطنية، حاولت الدراسة تقديم إجابة عن كيفية مساهمة هذه الكيانات في خروج السودان من أزمته، وكيف تضخ دماء العافية في بلد تتنازعه الصراعات.
أما عمر القراي فقد اختص بما يعرف متناولاً الفكرة «الجمهورية»، مركزا على شخصية مؤسسها محمود محمد طه، عارضا دعوته إلى تطوير التشريع الإسلامي، ومعارضته لقوانين الشريعة التي طبقها الرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري في سبتمبر1983/م، الأمر الذي جرًّ الى محاكمته بتهمة الردة، وإعدامه ، وكانت مساهمته في الكتاب بعنوان «الحركة الجمهورية السودانية المؤسس والمواقف «
كما تناول مأمون عثمان التيار السلفي في السودان، منذ بداياته موضحاً أن نواة التيار السلفي المنظم بدأت مع جماعة «أنصار السنّة المحمّدية»، التي تشكل إحدى كبريات الجماعات الإسلامية في السودان، مُرجعًا نشأة هذا التيار إلى عشرينيات القرن الماضي، أي قبل استقلال السودان، ومعرفا برموزه التاريخيين، وكيف استقبله المجتمع السوداني رفضًا وممانعة، وتفاعله مع الشأن السوداني، وعلاقة السلفيين بالمملكة العربية السعودية.
أسهم السيد الصادق المهدي، إمام طائفة الأنصار ورئيس وزراء السودان السابق، في الدراسة كباحث أكاديمي وليس سياسياً حزبياً ، وقدم قراءته الخاصة لـ»مستقبل الحركة الإسلامية في السودان، على ضوء المتغيرات الأخيرة»، هذا وفقا لما طلب منه في الدراسة كما علمنا ، ساردا تفاصيل تشكل الحركة الإسلامية وخوضها غمار السياسة في الستينيات من القرن الماضي، وكيف تخلصت من تحفظات بعض الحركات الإسلامية على الديمقراطية.
يقول الدكتور الصادق الفقيه الذي اطلع على الدراسة معقبا على إسهام الصادق الهدي :
(ينتهي حد المسامحة، حين لا يجد المهدي للحركة الإسلامية من ميزة أخرى بعد «قيامها بانقلاب الإنقاذ 1989، وتنكرها للشرعية الدستورية الديمقراطية) .
أما وليد الطيب فجاءت دراسته عن الحركة الإسلامية السودانية من النشأة إلى الانشقاق، باستعراض أسباب الصراع داخل الحركة منذ 1969، والانشقاقات المتتابعة التي كان يحسم فيها النصر لأحد أجنحة الحركة، حتى 1989، وما تفتق عن وصول الحركة إلى الحكم من ريبة بين الشركاء من العسكر والمدنيين وتأثير الاعتداء على الترابي في كندا وانعكاسه على مجريات الصراع داخل السلطة.
أما الكاتب خالد عبدالله فقدم شهادته – التي هي ثمرة عمله في الإعلام الرسمي السوداني- عن سنوات وجود زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في السودان، وقصة ما وصفه الكاتب بـ «خداع ابن لادن للسودان»،وتناولت الدراسة مشاهدات شخصية استناداً الى موقعه الإعلامي النافذ في تسعينيات القرن الماضي، فكشف عن تفاصيل ما كان يجري في معسكرات التدريب وأماكنها، والقدرات التي امتاز بها أعضاء التنظيم ، ويقول خالد عبدالله في دراسته « سنوات أسامة بن لادن في السودان « :لم تكن لزعيم تنظيم القاعدة في الخرطوم أية علاقات مع السودانيين ، سواء من عامة الناس أوالتابعين للحكومة السودانية ، وقد ظلوا يعيشون في واد آخر غير الذي يعيش فيه الشعب السوداني ، وكان الحذر واضحا في تعاملهم مع أي زائر غريب ، وبالنسبة لابن لادن نفسه لم يكن له أي ظهور في المناسبات الدينية أو السياسية ، وقد عزل نفسه بشكل عجيب عن الوسط السوداني ، ويعتقد خالد عبدالله أن السبب في ذلك أنه كان مشغولا للغاية بتحقيق أهداف وجوده في السودان .
ويضيف خالد عبدالله في دراسته أن الأسقف الهولندي (ألفونس تيربكي) ، الذي كان يسكن في الخرطوم سابقا بجوار منزل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ، قبل خروجه منها في العام 1996 ، روى إنه لم يكن يتوقع أن يكون جاره هذا خطيراً لهذا الحد ، ويصبح مطلوباً للعدالة الدولية ، ويدفع لمن يرشد إليه (25مليون دولار) . وأضاف القس تيربكي الذي كان يعمل في إحدى كنائس الخرطوم الكبيرة والذي يعيش الآن في إحدى القرى الموجودة على نقاط الحدود المشتركة بين بلجيكا وهولندا وألمانيا وهويتحدث لصحيفة « الشعب « البلجيكية اليومية : إنه لحظ الذكاء الشديد الذي يتمتع به ابن لادن ، وأضاف : (إنه كان يساعد الفقراء ويعطف عليهم ، ولهذا إنتابني إحساس بالذعر حينما سمعت لأول مرة في العام 1998 بأنه أكثر الإرهابيين خطورة «.. والدراسة تحوي العديد من الجديد الذي ينشر لأول مرة .
وفي دراسة استشرافية تناول عمر البشير الترابي الانفصال الخشن ومخاطره تحت عنوان « الانفصال الخشن هل يكون بوابة القاعدة الي السودان..؟ «، ويأتي سيناريو الانفصال (الخشن) كأحد الخيارات السيئة، كما تتناول الورقة احتمال انتعاش تنظيم القاعدة بعد الانفصال ومدى قدرة الجماعات المسلحة على النمو. وعما إذا كان الانفصال سيُضاعف نشاط هذه الجماعات في السودان ، وتنتهي نتائج دراسة عمر البشير الترابي الى أن ظاهرة التطرف الديني تستشري في السودان ويجب التنبه لها .
تناول فتحي الضو في دراسته « الترابي الإطار والصورة « نشأة الترابي وتأثره بوالده القاضي ورحلاته في ربوع السودان وتأثره بجده المجافي للسلطان، ودراسته في الغرب، مبرزاً قدراته في اتخاذ القرار، وتجربته مع الديمقراطية، ومشروعه الإسلامي، وتمرد أتباعه عليه وسجنه.
ويذهب الدكتورالصادق بخيت وكثيرون ممن اطلعوا على الدراسة أن هناك العديد من الآراء والأفكار والمقترحات في هذا الكتاب تصلح للإستفادة منها في مسيرة الحركة، أو الحركات الإسلامية، التي جرى تناولها. وفي بعضها توجيه الى ضرورات النظر في فقه الدولة بالنسبة للمشتغلين بالفكر الإسلامي واسناداً لجهد العلماء، وهادياً لدراسة التاريخ وتتبعه لادارة الحكم والدولة .
وقد اختار أكثر من باحث في هذا الكتاب منهجاً مزج بين التحليل والسرد التاريخي، وطرح بعضهم أسئلة يمكن أن تعين في فهم مسيرة الحركات الإسلامية في السودان وغيره.
ويعمل المركز على إصدار كتاب جديد آخر حول أوضاع المسلمين في جنوب السودان والعلاقة بين الجنوب والشمال بعد الانفصال ..
بقلم : مأمون عثمان
صحيفة الراي العام