جعفر عباس

الكرات الخمس


الكرات الخمس
عندما كان برايان دايسن الرئيس التنفيذي لشركة كوكا كولا العملاقة، ألقى في اجتماع مع آلاف العاملين في الشركة، كلمة استغرقت نصف دقيقة بالضبط، قال خلالها كلاما تناوله الآخرون في كتب تتألف من آلاف الصفحات.. إليكم ما قاله (ولكن ولأنني افتقر الى حكمته وخبرته، وبحكم أنني عربي وبالتالي أجيد اللت والعجن فسيستغرق مني نقل كلامه بضع دقائق): انظروا الى الحياة كلعبة.. كل واحد منا يتقاذف فيها خمس كرات في الهواء (كما يفعل الحاوي)، وتلك الكرات هي العمل والعائلة والصحة والأصدقاء والروح، ومهما تكن ماهرا في قذف تلك الكرات والتقاطها فمن المرجح أن واحدة او أكثر منها قد تسقط، وستنتبه إلى ان كرة العمل مطاطية، إذا سقطت من يدك ترتطم بالأرض ثم ترتد إليك فتستأنف قذفها والتقاطها، في حين ان الكرات الأربع الأخرى زجاجية، وإذا سقطت إحداهن فستصاب بخدوش او تشوهات او تتكسر وتتفتت تماما.
ما أراد دايسن تنبيه عمال كوكا كولا إليه، هو ان العمل “يروح ويجيء”، أنت اليوم في مصنع عطور وبعد سنة قد تكون في قسم المجاري في البلدية، وأينما كنت قد تنال ترقية او تنتقل الى إدارة أخرى، وتكتسب مهارات جديدة، تجعلك تستغني عن العمل كأجير وتنشئ عملا او مشروعا خاصا بك.. والمطلوب منك في كل الحالات ان تعمل بكفاءة وإخلاص، وبعد انتهاء الدوام عليك ترك العمل وراء ظهرك، ثم أعط بقية وقتك للعائلة والأصدقاء و……. “الراحة” الجسدية والنفسية وبدونهما لا تتحقق الراحة “الروحية”.
آآآآآخ لو تسنى لي الاطلاع على أفكار برايان دايسن هذه قبل عشرين سنة، عندما كان جُل همي هو إثبات وجودي في مجالات العمل، وكنت بالتالي اصطحب العمل معي الى البيت، وكنت أقوم بالترجمة في وقتي الخاص لزيادة دخلي.. لم يكن ذلك يضايق زوجتي في بادئ الأمر، ولكن مع قدوم المولود الثاني لم يعد بمقدورها توزيع الوقت والحنان والرعاية على طفلين.. ومع كثرة أعبائي لم تعد لها حياة اجتماعية فلا وقت لي لاصطحابها لزيارة قريبة او حبيبة.. كنت في ذات سنة أترجم كتابا ضخما عن صناعة النفط في منطقة الخليج وكان عمر بنتي عبير وقتها نحو 18 شهرا ولاحظت أنها وبانتظام تجلس قربي على الطاولة، وانا اترجم ثم تنام وفي وضع معوج.. ذات ليلة ما أن أحسست أن رأسها سيسقط من فرط النعاس حتى وضعت ماء في فمي و”بخخخخ” في وجهها فانتفضت مذعورة ثم مسرورة للمداعبة وناديت على أخيها الأكبر غسان وأجلستهما على الطاولة وقلت لهما: اريد منكما تمزيق كل هذه الأوراق ومن ينجح في صنع أكبر كرة ورق له جائزة، وقام ثلاثتنا بالفتك بصناعة النفط في الخليج ومنذ يومها لم أقبل القيام بأي ترجمة تجارية نظير أي مقابل نقدي.
بل وكما قلت مرارا فقد هجرت الصحافة المكتوبة لأنها سرقت من وقتي مع العائلة والأصدقاء.. وما زلت أحرص على إتقان عملي والتفاني فيه ولكن وأقولها بكل صدق: مهما كان العائد المالي للعمل الذي أؤديه فإنني لن أتردد في تركه إذا كان خصما على علاقاتي العائلية والاجتماعية وعلى حساب راحتي النفسية والجسدية، ولو كان هناك عدل وإنصاف لخصص لي مجلس التعاون الخليجي راتبا شهريا مريحا بلا حاجة مني لـ”الدوام”.. خدمتكم ثلاثين سنة.. هل كثير علي أن أتقاضى راتبا تقاعديا؟

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com