أعمـــدة النميمـــــة
وهنا خطرت لي فكرة .. أو ربما تكون خاطرة لم تصل بعد لأن تكون فكرة .. وهي لماذا لا أترك مساحة عمودي بيضاء ؟؟ .. كنوع من التعبير المتمرد ضد هذا العك الفج .. أو كنوع من الرفض الاحتجاجي على اللا موضوعية التي تعج في المكان .. أو ذاك النوع من التعبير السريالي الذي يشار إليه بعبارة (( بدون تعليق )) .
هذا التداعي الفكري قادني الى قضية هامة وهي مدى المعاناة المهنية التي التي بتكبدها أولئك الصحفيون الذين تحتم عليهم الظروف ضرورة كتابة أعمدتهم يوميا .. وفي أي موضوع يكون .. دون أن تكون أمامهم فرصة الهروب عن ذلك أو الاعتذار إلا عند الضرورة القصوى .. مما يتحتم عليهم ضرورة البحث عن أي موضوع حتى لو كان ( هايفا ) أو إنصرافيا لملء المساحة المخصصة لهم . حتى من يسافر فارا بجلده فان الإنترنت موصول به وليس له مهرب .
وإمعانا في التفكير الارتدادي أنتهيت الى حقيقة واقعية هامة وهي أن بعض الصحفيين قد تحولت أعمدتهم الى نوع من (( أعمدة النميمة )) تلك التي تتناول سفاسف الأمور وتوافه الأشياء وخصوصيات الناس وبذلك يضطر هؤلاء الى تناول بعض القضايا الإنصرافية التي لا تحقق هدفا إلا لأصحابها .. وهذه سرعان ما تتحول الى قضايا وهمية تقود حتما الى نوع من ( الصدام ) حيث يبدأ الموقف التصادمي بالتراشق الذي يعتمد على إثارة بعض القضايا التي يتم تشكيلها بقوالب معينة لتبدو وكأنها مواضيع حية تستحق التخندق وتستلزم التمترس .. مستفيدين من حالة الاستقطاب الحاد وحمية المناصرة و التحزب الرياضي الشرس .. الذي زكته هي ذاتها ومازالت تقتات عليه .
( خلي روحك رياضية ) .. عبارة خالدة مثالية .. تشير بجلاء إلى أسمى معاني الرياضة بل تدلل بجلاء للقيم الرياضية وأهدافها الإنسانية السامية .. إذ مثلما للبدن رياضة جسدتها عبارة ( العقل السليم في الجسم السليم ) فإن للروح رياضة قوامها المحبة والسمو الوحداني الذي يجعل الحياة جميلة من خلال توطين النفس على تقبل تقلبات الحياة ومغالباتها والتعاطى معها بنوع من المسامحة الكريمة .
إذن ما الذي يجعل بعض الأقلام الرياضية تمارس هذا الجنوح ؟؟؟ في اعتقادي أن مرد ذلك إلى أن هذه الأقلام ليست رياضية في الأصل .. إذ لم تعايش الرياضة ولم تلامس معانيها في عـــــالم الحقيقـــة .. لأن ( فاقد الشيء لا يعطيه ) الى جانب أن دخولها الى المعترك الرياضي تم من خــلال الأبواب الخلفية .. الذي نسميه مجـــازا ( باب النسوان ) .
وكلمة النسوان ربما تبدو وكأنها دخيلة .. لكنها في حقيقة الأمر هي أكثر ملامسة للواقع المر من غيرها .. ذلك أن النسوة عرفن في الحياة بأنهن قد اعتدن على تداول النميمة حيثما تجمعن .. وهو ذات الشيء الذي تمارسة هذه الأقلام وللأسف الشديد .. حتى وصل الأمر الى تحوير الكلمة لتتحول مجازا الى كلمة ( شمار ) وهي تعني في المجاز نقل الخبر للآخر ..
قادتني الأيام أثناء إحدى إجازاتي في السودان إلى دار إحدى الصحف الرياضية .. وهناك قابلت زميلا سابقا قادته الظروف لأن يكون مسؤولا بإحدى هذه الصحف الرياضية .. وبعد أن قام الرجل معي بواجب الضيافة وفاصل المجاملة بدأ يلقي إلى بكلمة ويحرك نفسه بين أوراقه تارة أخرى حتى تنبه للهاتف بجواره .. و إذا به يرفع سماعة هاتفه المتحرك ودونما مقدمات وجدته يحدث للطرف الآخر قائلا :- ( والله الليلة عندي ليك شمار حار بشكل …… ) ثم أمطر صاحبي الطرف الآخر براجمات وقاذفات لا أول لها ولا آخر .. وهو يرمقني بين الفنية والأخرى وكأنه يستهدفني أنا وليس صاحبه .. والمهم أنه سكب كل ( علبة الدقة ) .
وقتها أخذت أفكر في نظرة الطرف الآخر لصاحبي هذا .. وخفت أن يتهمه بالخواء الفكري … لكني سرعان ما استدركت أن ذلك الطرف لن يكون إلا كصاحبي هذا لأن المثل يقول : (( من قال لك فقد نقل عنك )) .. وبعدها تراءت لي صور شتى لحكم مختبئة في أرفف الذاكرة البعيدة جاءت تتداعى أمامي رويدا رويدا وهي تقول (( كل إناء بما فيه ينضح )) .. و (( لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك )) .. و(( العربة الفارغة أكثر جلبة )) ..
والمتأمل لمانشيتات هذه الصحف يكتشف بجلاء أن هناك كم هائل من العبارات الجوفاء التي ليست من الحقيقة في شيء وقد اعتاد كتابها وضعها حتى أصبحت السقف الأعلى للحديث وحينما تقارن تلك العبارات مع الواقع الرياضي المر سرعان ما تكتشف أننا في القاع ولكن الصحافة تصور لنا الأمر وكأننا في القمة .. مما يني أن الصحافة قد تحولت إلى سخافة ونوع من الإسفاف .
لاعبون يوصفون بعبارات تفوق حجمهم الحقيقي .. أندية توصف وكأنها أعرق من مثيلاتها في الدوري الهولندي و الإيطالي والإسباني والإنجليزي .. بينما ما تزال الأندية كسيحة تستجدى طوب الأرض … أما المباريات التي تستهلك وقتا من الناس وهي تخلو من اللمحات الجمالية فهي جعجعة بلا طحين … ودائما ما يكون التحكيم فاشلا .. لأنه شماعة لا وجيع لها .
ومعارك التسجيلات وما أدراك ما فيها .. مع الطوفان الإعلامي الذي جعل تسجيل اللاعبين خرافة من الخرافات وآفة من الآفات في غياب اللاعب الحقيقي الذي يمكن أن يكون موهبة حقيقية .. فإذا ما بحثت عن السبب تجده في حقيقة الأمر مزايدات إعلامية روجت لها بعض الأقلام وحبكت لها الأفلام ليصدق الجميع تلك الرواية فتصبح الحصيلة في آخر المطاف أحلام كاذبة .
إن تلك الأقـــلام التي يتحفــــنا الإعـــلام بها والتي أصبحت جزءا من كياننا الرياضي هي في حقيقة الأمر إضافة سلبية مقدرة في سبيل تطورنا الرياضي ذلك أنها تحدث جلبة واهية وبلبلة تهريجية تخلخل بها المفاهيم وتجعل المتلقين أيضا يعانون من هذا الخواء الفكري فتنشأ حالة من عدم الإدراك والاستدراك .. وتتحول القيم الفاضلة النبيلة متداعية الى قاع الذاكرة الرياضية وتحل مكانها ( هلاويس ) وأفكار ضبابية تحتل مقدمة الذاكرة لتصبح البلبلة فكرا بتداوله الناس دون إدراك منهم .
وهذه الأقــــلام في حقيقة الأمر لا تعلـــم أن هــذه الكلمات كالرصاصة و لها ما لها من الخطورة فهذه المنابر منارات للعلم وليست بوابات للتجهيل .. ذلك أن رسالة الإعلام لا تقـــل بأي حال من الأحوال عن الدور التربوي المؤسسي الخاص بالتنشئة الاجتماعية ( كالمدرسة ) بل ربما يكون دورها أكثر خطورة من ذلك باعتبارها تلامس حياة الناس وتدخل الدور دونما رقيب أو حسيب لإقتران هذا النشاط مع نشاط محبب من كل الفئات العمرية .. .
والإعلام الناجح هو ما كان دوره واقعيا وحياديا يهدف في الدرجة الأولى الى تشخيص الظواهر والأشياء بسبر غورها وتحليل عناصرها ووضع الرؤى التحليلية لها بمنظور محايد ليس فيه محاباة أو ميل أو تحيّز .. ولا غضاضة في أن يضع الحلول والمعالجات باعتبارها وجهة نظر تقبل الصواب والخطأ .. لكن الأفضل أن يترك للآخرين فرصة المشاركة والإحساس بهذه القضايا والتفاعل معها من خلال استنفار الطاقات والقدرات وإغراء الحواس واستثارة الشجون لأن ( نصف رأيك عند أخيك ) .
ولا بد أن يسعى الإعلام إلى ذلك من خلال الاستعانة بأدوات مناسبة وألفاظ دقيقة مناسبة وعناوين متزنة يراعى فيها الموضوعية والصدق مع النفس أولا ثم القارئ ثانيا .. فلا تكون براقة تبهر القراء وتخدعهم ولا هي ميتة لا روح فيها .
والإعلام البراق كما نعلم يشكك المتلقي .. ويسهم في تزييف الواقع وتزييف الوعي الجماهيري مما يساهم في تشكيل مجتمع منتشي دونما دواعي حقيقية .. وهكذا يسهم الصحفي في أعادة إنتاج حالة التزييف ثم يصدقها حينما تأتيه من الجماهير فيتلقاها ويعيد إنتاجها وهكذا دواليك .. حتى تأتي لحظة الاختبار الحقيقي عند المشاركات الدولية فتحدث المفاجأة التي يفيق منها الجميع .. لكنهم للأسف لن يستطيعوا معرفة السبب لأنهم يعيشون حالة من الضبابية التي لا تتيح لهم الرؤية السليمة وهكذا يدور المجتمع حول نفسه .
والحركة الرياضية في مجملها رافد هام من روافد الحركة الثقافية في كل مجتمع .. بل أن الرياضة بقيمها القوية والمثالية تسهم في أحايين كثيرة إلى زيادة الحس الوطني والانتماء للجماعة .. بل تسهم كثيرا في إذابة الجليد المتراكم في شكل عصبيات وحزبيات رياضية .. لكن الواقع المر يشهد عكس ذلك تماما بسبب هذه الكتابات الجوفاء التي تزكى نعرة العصبية والمناصرة العمياء .
رغم هذا الدور المتعاظم للرياضة إلا أن الإعلام الرياضي ما زال يعاني من بعض العيوب الكبيرة التي تجعله سلبيا .. بسبب التزييف الذي يمارسه من جانب ومن جانب آخر محاولاته لتلميع بعض الواجهات بصنوف المجاملة والتملق واسترضاء الآخرين .. استرضاء للأندية أحيانا واسترضاء للأقطاب واللاعبين دون سواهم .
أما الانتماءات الضيقة والانحياز لأندية معينة فقد تأخذ حظا وافرا من بعض الإعلاميين الذين لا يستطيعون الفكاك من براثن قيدها فتتلون حروفهم وتصبح أداة تعبر عن ناد معين أو لون معين .. وإن كنا لا نتصور صحفيا بلا انتماء لكن ذلك ينبغى أن لا يطغى على لون المداد .
والحقيقة المرة أن هؤلاء الصحفيين قد خلقوا دون وعي منهم حالة من الوهم الخرافي في مخيلة المتلقين بل تشتيتا في القناعان والولاءات خاصة عند مقارنة هذه الكتابات مع واقع الحال في ظل النتائج المخيبة للآمال في وقت كان ينبغي فيه لهذا الإعلامي أن يكون أداة انتقاء وتعليم وتوجيه لا أن يكون بوقا ينعق مع الناعقين .
——————-
ملء السنابل تنحني بتواضع ….. والفارغات رؤوسهن شوامخ
——————–
رغم فوز منتخبنا القومي على نظيره المصري لا نستطيع أن نستوثق من أن هذا النصر انعكاسا لمستوانا الذي تفوق بين ليلة وضحاها على بطل أفريقيا .. له التهنئة .
زميلي السابق بنادي الموردة الكابتن الفنان (( شاكر عطيه بابكر )) سعدت ببعض حروف منه ردا وتعليقا على أحد موضوعاتي ليعيدني للزمن الجميل .[/ALIGN]
صلاح محمد عبد الدائم ( شكوكو )
shococo@hotmail.com