جعفر عباس
سيرة وطن في مسيرة زول (1)
وقد عنّ لي نشر هذه السلسلة في هذا الوقت من السنة بالتحديد، لأنه موسم الهجرة من المرحلة الثانوية الى الجامعة ومن الجامعة الى الحياة العملية أو الشارع، وقصة حياتي – أو جانب منها – في سياق فترة معينة من مسيرة بلادي، قد تكون مفيدة لمن يستقبلون المراحل المقبلة من حياتهم وهم محبطون ويائسون.. لا تستسلموا لليأس، فعمكم هذا دخل المدرسة “بالصدفة” وعانى خلال المراحل الدراسية الأولى شتى صنوف العذاب الجسدي والنفسي.. ومع هذا نال درجة من جامعة مرموقة.. من حقي أن أفخر بذلك لأنني تلقيت تعليمي في كل المراحل بلغتين غريبتين عليّ، ففي المرحلة الابتدائية والمتوسطة كانت العربية لغة التدريس، بينما كنت وجميع التلاميذ عجما نتكلم اللغة النوبية التي لا توجد قواسم مشتركة بينها وبين العربية، وكنا نتلقى الضربات الموجعة على أردافنا البضة كلما ضبطونا نتكلم لغتنا الأم (النوبية) في فناء المدرسة، وكان معظمنا لا يفهم شرح الدروس بسبب عدم الإلمام بالعربية، وفي المدرسة الثانوية والجامعة كانت الانجليزية لغة تدريس جميع المواد، ثم دخل أخوكم/ عمكم الحياة العملية من بوابة التدريس، وانتهى به الأمر إعلاميا في بي بي سي ثم قناة الجزيرة.. اللهم لك الحمد والشكر، حدث كل هذا وأنا حامل بكالوريوس آداب وكان أهلي يتمنون أن “أطلع دكتور”، وحمدت الله لاحقا انني لم “أطلع دكتور”: لا مناوبات ليلية ولا مريض يموت أمام عيني كل اسبوع او شهر ولا أقطع شعرة من رأس ابن آدم!! والشاهد: ليس مهما اي شهادة تحمل بل المهم هو أن تعمل بقول الشاعر: إذا كنت ذا رأيٍ/ فكن ذا عزيمة، فإن فساد الرأي ان تترددا!! الشهادات لا تصنع الانسان بل الإنسان هو الذي يصنع الشهادات والنجاح.
اسمي بالكامل جعفر عباس سيد أحمد حاج شيخ موسى حاج.. وموطني في السودان هو جزيرة بدين التي هي جزء من كرمة، عاصمة الدولة والحضارة النوبية العريقة، وبالتالي فإنني نوبي على السكين، وأجيد اللغة النوبية وأعشقها، بل ورغم سنوات اغترابي الطويلة خارج السودان، يعتبرني الكثير من أهلي ومعارفي حجة ومرجعا في شؤون اللغة النوبية.. أحيانا أحس – وأنا أعيش حاليا في دولة قطر- بما يحسه مدمن التبغ، عندما تمر عدة أيام من دون أن أجد فرصة التحدث بالنوبية، فأقلب ذاكرتي بحثا عن شخص نوبي أتصل به هاتفيا لنفض الغبار عن لساني والفضفضة بالنوبية
جدي لأبي، “سيد أحمد” (وهو اسم واحد مركب)، من جزيرة سِمِد الواقعة الى الشمال من بدين، ويبدو أن أبو السيد كان “شبعان وصاحب جيب مليان”، لأنه تزوج جدتي حفصة، وهي من إحدى أكبر العائلات في بدين وهي عائلة فقير، واسم عائلتنا هو فقير نسي ذNassi (سلالة فقير) والفقير عندنا في السودان لقب يطلق على رجل الدين العالم الزاهد، وفي العامية السودانية يسمى الفقيه فقير أو فكي.. أبي ولد في جزيرة بدين وطفش منها وعمره نحو 17 سنة.. ديار النوبة ذات طبيعة قاسية ولهذا كانت تسمى كدين فاكي Kideen fakki أي أرض الحجر، فالصحراء النوبية تنتهي في ديارنا بمناطق جبلية وصخرية تخنق حوض النيل ولا تترك إلا فسحة ضيقة من الأرض تصلح للزراعة، وهكذا عرف أجدادنا الهجرة الى السودان الأوسط ومصر والسعودية منذ مطلع القرن .18
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com