جعفر عباس

سيرة وطن في مسيرة زول (3)

[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (3) [/ALIGN] عندما أتيت جزيرة بدين صغيرا وناطقا بالعربية، بحكم المولد في الخرطوم بحري، وسنوات الطفولة الأولى في السودان الأوسط، كان الشخص الذي يتولى الترجمة بيننا (أنا وإخوتي) وبقية أهل الجزيرة سيدة من قريباتنا، كانت تفهم بعضا من مفردات اللغة العربية وكنا نصيح في غياب أمي – مثلا- “مش عايزين ملوخية” فيرسلون مندوبا على ظهر حمار لاستقدام المترجمة لتقول لهم: مُلكييق فرقمنا.. فيسألونها: منقا فرقنا.. ماذا يريدون؟ فتطرح علينا السؤال بالعربية.. وهكذا دواليك وكثيرا ما كنا نصر على ان تبقى تلك السيدة معنا عدة ايام متتالية ولم يكن في ذلك من بأس فهي قريبتنا وكانت حتى وفاتها قبل سنوات قليلة من النوع الهاش الباش دائما.
في مدرسة بدين الأولية (لم تكن كلمة ابتدائية شائعة وقتها)، عانيت خلال سنتي الأولى من العزلة الاجتماعية بسبب حاجز اللغة فلا أنا أفهم النوبية، ولا زملائي يعرفون شيئا من العربية العامية، وشيئا فشيئا صرت أفهم ثم أتكلم النوبية… وشيئا فشيئا نسيت العربية تماما وصار اسمي جافر أباس.. وكنت – بدون فخر – من أكثر تلاميذ المدرسة بلادة وبؤسا أكاديميا، لأن حاجز اللغة منعني من تكوين بنية أساسية/ تحتية قوية تكون نقطة انطلاقي المدرسي.. ففي بادئ الأمر لم أكن استطيع التواصل مع أقراني وبعد أن نسيت العربية، صرت لا أفهم شرح الدروس بالعربية!
عجيب أمرنا نحن النوبيين: نكتب مواضيع إنشاء بالعربية الفصحى ونتفوق فيها على الأعراب، ولكننا نعجز عن التواصل بالعربية لغة الحياة اليومية، وبالانتقال الى المرحلة المتوسطة حدثت لي الطفرة الأكاديمية الكبرى، ففي تلك المرحلة بدأنا تعلم الانجليزية.. وكانت قصة حب من أول كلمة، فمنذ تلك المرحلة صارت الإنجليزية هواي وعشقي.. وبانتهاء السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة كنت قد قرأت جميع الروايات الانجليزية في مكتبة المدرسة.. وكانت الدرجات العالية التي أحصل عليها في اللغة الإنجليزية، تعوضني عن الدرجات المتلتلة التي كنت أخسرها في الرياضيات، وبدون فخر لم يحدث قط أن نجحت في حل مسألة جبر طوال مسيرتي الدراسية، وما زلت أرى في الجبر ضربا من التنجيم: س تربيع أس 5 زائد ص مضروبة في 9 يساوي ع مضروبة في سين وجيم.. علل! الله يعِلك! طالما أنت تعرف ان طرفي المعادلة متساويان فلماذا تكون ساديا وتطلب منا ان نبرهن على أن كلامك صحيح، وخاصة أنك تعرف أنه ما من أحد يستطيع أن “يغالطك” لأنك تمثل وزارة المعارف (التربية) وبالتالي تمثل الحكومة ولا صوت يعلو فوق صوت الحكومة؟
كانت الأيام الأولى في مدرسة البرقيق المتوسطة في منتهى القسوة، فقد كان لزاما علينا أن نقيم في المسكن التابع للمدرسة والمسمى في السودان “داخلية”، صبية صغار أكملوا فقط اربع سنوات من التعليم الابتدائي وتتراوح أعمارهم ما بين 10 و11 سنة يفارقون أهلهم ليقيموا في عنابر تضم أناسا من قرى وبلدات مختلفة، وكل واحد منهم يعاني مرارة فراق الأهل لأول مرة.. البرقيق، حيث كانت المدرسة لم تكن بلدة او قرية بالمفهوم المتعارف عليه، بل كانت المنطقة التي تحمل ذلك الاسم في معظمها خالية من البيوت السكنية ولكنها كانت منطقة شديدة الرخاء لأن بها مشروعا زراعيا ضخما يغطي مئات الآلاف من الأفدنة وكان الناس يتوجهون الى حقولهم على ظهور الحمير ويعودون الى بيوتهم في أول المساء.. وبحسب علمي لم تكن تلك المنطقة مأهولة قبل قيام المشروع، بل كان اسمها كمبو وهي تحريف لكلمة كامب التي تعني معسكر، وكانت إقامة مشروع عملاق به قناة رئيسية وقنوات فرعية تمتد لعشرات الكيلومترات قد استوجبت إقامة كامب ضخم يضم مئات العمال والمهندسين (خلال خضوع السودان للحكم البريطاني)، وبقيام المشروع تحولت قرية كرمة البلد التاريخية الى بلدة مترامية الأطراف (هناك كرمة النزل – بضم النون الى الشمال من كرمة البلد- وكلاهما كان مركزا لحضارة كرمة النوبية وبهما قلاع تسمى الواحدة منها دفوفة تحرسها كباش منحوتة من الصخر تعود الى آلاف السنين، ودفي بكسر الدال تعني القصر والقلعة).

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com