جعفر عباس

سيرة وطن في مسيرة زول (7)

[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (7) [/ALIGN] كان عمي محمد عثمان فقير علي الشهير بموسليني، فارس العمل التعاوني في الجزء الذي يخصنا من بلدتنا بدين، فما من مشروع زراعي أو طاحونة او دكان تعاوني قام على مدى نصف قرن، إلا كان هو من يجمع المساهمات ويسافر لشراء المعدات ويغشى المكاتب الحكومية للحصول على التراخيص والتصاريح، وكان أيضا خطيباً وإمام “جمعة”، وكان لديه كتاب نجا من طوفان نوح يضم نحو سبع خطب نشف بها ريقنا على مدى عشرات السنين، وكان الكتاب مهلهلا من كثرة الاستخدام، وذات جمعة كان يهدر بالخطبة الأولى في المسجد فتساقطت بضع وريقات من يده وانحنى لجمع شتاتها، ولأنها لم تكن مرقمة بسبب تآكل أطرافها فقد عجز عن ترتيب الصفحات على النحو الصحيح فقال: يللا أقم الصلاة!! كان رحمه الله صاحب دعابة وضحكة مجلجلة، بل كان يضحك ويُضحِك غيره وهو يلقي المواعظ الدينية،.. وذات مرة خاطب حلقة من الرجال بقوله انه لاحظ انهم يتبادلون التحايا مع النساء “من طرف” بالأحضان والمصافحة باليد، وأن ذلك حرام! فقال له أحدهم: لقد ظللنا نفعل ذلك طوال عمرنا فلماذا لم تخبرنا بأن المسألة حرام وأنت شيخنا وكبيرنا؟ فقال موسليني: والله انا ذاتي يا دوب عرفت المسألة دي.
كان رحمه الله شخصية فذة، ذات حضور طاغٍ، وكان المرشح الذي يحظى بمساندته في الانتخابات يضمن لنفسه عشرات الآلاف من الأصوات، فقد كان ذا خبرة في التعامل مع أهل السلطة، ولم يكن يخاف من “الحكومة وناس الحكومة” كما هو حال القرويين،.. ومثل مرة أمام القاضي في مدينة دنقلا، وأثناء المداولات قام محامي الطرف الآخر بمخاطبة القاضي أكثر من مرة بالإنجليزية، فلما جاء الدور على موسليني بدأ يتكلم باللغة النوبية وهو يعرف انه لا القاضي ولا المحامي يعرفان منها كلمة واحدة، فصاح فيه القاضي: شنو ده يا حاج؟ تكلم بلغة مفهومة!! فرد موسليني: لما المحامي يتكلم بلغة مفهومة!! فضحك القاضي ومنع المحامي من استخدام مفردات إنجليزية خلال الجلسات.
كان ليومي الاثنين والخميس مذاق خاص في جزيرة بدين لأنهما يوما “السوق”، حيث كان التجار يأتون الى سوق البلدة من جميع أنحاء المنطقة، وكان المحظوظون منا من يملكون السيولة لشراء حلاوة “لكّوم”، ويسميها غيرنا “راحة الحلقوم”، ولكن سر سعادتنا بيومي السوق كان يكمن في أننا كنا نتعاطى اللحم في ذينك اليومين، وكانت رائحة البصل المحمر تتسرب الى أنوفنا في أمسيات الخميس والاثنين، عندما تشرع الأمهات في إعداد “اليخني”، وهي كلمة تركية وتسمى “الدمعة” بعامية وسط السودان، وكنا أحيانا نشهد طفرة طعامية عندما يقوم أحدهم بذبح بهيمة “كيري”، أي بدون ترخيص داخل الحي، ويوزع لحمها على كل البيوت بنظام الدفع المؤجل (يسمى في ديار النوبة الشراء بالـ “قايب”)، وذات مرة وزع خ.م. وهو من أبناء حينا، لحما على كل البيوت بواقع خمسة قروش للكوم الواحد، واستمتع الكبار والصغار باليخني ولكن امرأة فاتها توزيع اللحم طلبت من خ.م. أن يسلخ لها رأس البهيمة، فطلب منها ان تذهب الى حيث تشاء لتعطيه وقتا لسلخ الرأس ثم تعود فتأخذه، ولأمر ما عادت المرأة بعد ان رأت ان من الخير ان تكون بجواره لتستعجله سلخ الرأس، ولم يكن صاحبنا منتبها الى أنها عادت، وكان قد شرع في السلخ بهمة ونشاط، وإذا بالسكين تنحرف من يده اليمنى وتنغرس في اليسرى،.. حدث ذلك نتيجة صرخة تقطع نياط القلب صدرت من المرأة، وما جعلها تصرخ هو ان خ.م. كان يسلخ رأس ثعلب،.. نعم كان قد اصطاد ثعلبا بعد ان زحف الى جحره وهو غائب، وانتظر في الجحر حتى انتصف النهار فعاد الثعلب إلى الجحر لينعم ببعض الراحة فإذا بصاحبنا ينقض عليه، ودار بينهما صراع محموم استخدمت فيه الأظافر والمخالب والأسنان، وانتهت المعركة بسقوط الثعلب صريعا، وإلى يومنا هذا لا يعرف أهل حينا الذين أكلوا لحم الثعلب في ذلك اليوم ما إذا كان الثعلب قد مات فطيسا ام مذبوحا “حلالا”!.. ومع هذا أفلت خ.م. من العقاب فقد كان محبوبا من الجميع، ولم يسلم من مقالبه كبير او صغير في الحي.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com