جعفر عباس

المسيرة متواصلة

[ALIGN=CENTER]المسيرة متواصلة [/ALIGN] لله يصبركم على البرقيق كما صبركم على بدين، ففيها تلقيت تعليمي “الأوسط” وكانت مدرسة امبريالية يكتسح طلابها المقاعد المحدودة التي كانت متاحة في المدارس الثانوية، وكانت وادي سيدنا الثانوية أيامها محجوزة لأبناء منطقتي المحس والدناقلة (النوبة)، ولسبب مريب تم قبول ابن عمي عبداللطيف الطيب في خور طقت الثانوية، فعم الحزن بيته، فقد كانت المدرسة الثانوية في عرف أهلنا “وادي سيدنا وبس”، رغم أن “خور طقت” كانت مدرسة ذات شنة ورنة، ولكن ولكونها وبحكم موقعها مخصصة لأبناء غرب ووسط السودان فقد كان أهلنا في السودان الشمالي يجهلون مكانتها ومكانها، وطيب البعض خاطر ابن عمي بقولهم ان بإمكانه ان يلتحق بوادي سيدنا بعد ان يكمل دراسته في خور طقت،.. وفي البرقيق تفتحت عقولنا على حضارة كرمة، فقد كان ناظر مدرستنا مدني محمد عبدالماجد حريصا على توسيع مداركنا، وكان ينظم لنا زيارات للمواقع الأثرية، وفي منطقة البرقيق عدة دفوفات ومفردها “دِفي” وهي كلمة نوبية تعني القصر والحصن، وكانت الآثار في تلك الايام ترقد مهملة حيث تركها أجدادنا، وكانت حول الدفوفات طوابير من الخراف والأسود والتماثيل البشرية، والى الشمال قليلا من كرمة النزل كان هناك تمثال كان أهلنا يسمونه “تمبس أقجن أوندي” وتعني “رجل تمبس الفحل” وتمبس بلدة الى الشمال من كرمة، معظم اهلها ينحدرون من بدين، وكان التمثال ضخما، (يقبع حاليا في متحف السودان بالخرطوم)، وكانت اعضاؤه التناسلية بادية (ومن ثم التسمية أقجن أوندي)، ورأى بعض المواطنين ان التمثال قليل الحياء، فأتوا بالفؤوس وختنوه بالكامل أي جردوه من فحولته، وسبقوا بذلك جماعة غرب افريقيا الذين انتشروا في العاصمة السودانية في عام 2003، وسحبوا ذكورة كل من صافحهم ثم ساوموهم على ردها اليهم نظير مبالغ باهظة.
وفي مدرسة البرقيق اكتشفنا لأول مرة ابناء قبيلة الشايقية آدميون “زيي زيك”، ولم يكن معظمنا قد رأى حتى الالتحاق بمدرسة البرقيق الوسطى شايقيا بالعين المجردة، وكان النوبي ينشأ على سوء الظن بالشايقية، لأنهم كانوا وحتى دالت دولتهم يغيرون على مناطقنا ويبهدلوننا، وكان للشايقية وجود ملموس في المدرسة والسر في ذلك أنهم وبعد انتهاء عصر الفروسية والحروب…، ركزوا على الزراعة، وأحسب ان الشايقية هم افضل اهل السودان في مجال الزراعة، فقد سبقوا غيرهم في زراعة مختلف انواع المحاصيل، وكانوا اول من انتبه الى قيمة الفواكه (الموالح على نحو خاص) بينما كان بقية اهل الشمال السوداني يقيسون مكانة كل عائلة بما تملكه من اشجار نخيل عجفاء في معظمها، بل وحتى في مجال النخيل أدخل الشايقية أنواعا جديدة مجلوبة من الخارج اشهرها “المشرقي”، ولِعلة في ألسنة أهلنا النوبيين فإنهم يسمون ذلك النوع “المشرك”. بدأ العمل في مشروع البرقيق في أواخر اربعينات القرن الماضي ولضخامة المشروع فقد أقام من شاركوا في تأسيسه معسكرا ضخما (كامب) ومن هنا صار الاسم المحلي للبرقيق “كمبو”، وقد عرضت ادارة المشروع على سكان المناطق المحسية والدنقلاوية (النوبية) امتلاك اراض فيه وزراعتها، ولكنهم رفضوا ذلك باعتبار انه لا يترك “بلده” إلا شخص مقطوع من شجرة، وهكذا رفض اهل بدين واشكان وتمبس وفريق وأكد وارتقاشة وكرمة العمل في المشروع الذي لم يكن يبعد عن بلداتهم سوى كيلومترات قليلة، فجاء الشايقية من كل حدب وصوب وسيطروا على معظم أراضي المشروع، وكان من ايجابيات ذلك انهم نقلوا معهم شتلات اشجار الفواكه والنخيل المحسنة الى المنطقة، وهكذا صار بعض عيال الشايقية اقلية مضطهدة في مدرسة (كمبو) البرقيق الوسطى،.. وفي البرقيق تعلمت لهجة الدناقلة بالنظر الى ان المدرسة كانت تضم دناقلة من حفير مشو الى بنه ومروارتي والسير ومقاصر وأقجة ودنقلا وإرتدي وغيرها،.. وفي تلك المرحلة كنت قد نسيت معظم “العربي”الذي تعلمته في طفولتي الباكرة في كوستي، وصرت نوبيا محسيا أعجميا.
ولكن المشكلة كانت تكمن في ان التخاطب باللغة النوبية كان جريمة عقابها تصاعدي يبدأ بخمس جلدات، وإذا تكرر ضبطك متلبسا بتلك الجريمة يزداد عدد الجلدات حتى يصل الى 15 ضربة بجريد النخل او أعواد شجرة الجوافة!! ومع هذا كان دخول المدرسة المتوسطة يمثل طفرة طبقية واجتماعية (خريج المدرسة الوسطى كان يوظف في درجة اسمها سكيل كيه ويتقاضى 14 جنيها في حين ان خريج المدرسة الثانوية كان يوظف على سكيل جيه ويتقاضى 21 جنيها، يعني لم يكن فرق السبعة جنيهات يستاهل ان تضيع اربع سنوات من عمرك في المرحلة الثانوية).

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com