جعفر عباس

المسيرة من القرية إلى البندر (2)

[ALIGN=CENTER]المسيرة من القرية إلى البندر (2) [/ALIGN] فارقت الشمال نهائيا منتقلا الى وادي سيدنا الثانوية، وكان الشيء الوحيد المفرح في أمر ذلك الانتقال هو انني لن أعاني قط من حشرة النمتة، فرغم ان عمر الواحدة منها لا يزيد على عشر ساعات، إلا ان نصيب الفرد منها يوميا كان حوالي عشرين مليون حشرة، وكنا نتفاداها بوضع أكياس من القماش الخفيف على رؤوسنا كي نحمي آذاننا من قرصاتها التي تترك قروحا كتلك التي تتسبب فيها الذبابة الرملية.
ولم تدم سعادتي بفراق النمتة طويلا، ففي وادي سيدنا عرفنا حشرة حقيرة اسمها “الفساية”، ولا أدري لماذا أطلق عليها ذلك الاسم السخيف رغم انها لا تعاني من الغازات بل تمشي فوق جلدك وتفرز مادة سائلة فتتورم المنطقة التي مشت عليها.
المهم، ذهبت الى الشمالية وعمري نحو خمس سنوات وقضيت فيها المرحلتين الابتدائية والوسطى، وبعدها فارقتها نهائيا، والسبب في ذلك ان اهلي من الجهتين كانوا موزعين بين كوستي والخرطوم بحري، وطوال العقود الماضية ظل بيتنا في بدين مهجورا، ويقال ان قبيلة من الجن تقيم فيه، ومن ثم لم تتعرض محتوياته للسرقة، رغم توافد أعداد كبيرة من المهاجرين على بدين في السنوات الأخيرة، ولا نستطيع ان نعرضه للبيع لأن المشتري سيشترط إخلاء البيت من الجن، وقد مات كل أجدادي الذين كانوا متخصصين في التصدي للجن.
طبعا كنت خلال سنوات الدراسة في بدين والبرقيق اسافر في الأجازات الى كوستي وأعود لأحدث أقراني عن دار الرياضة والسينما والآيسكريم، وكانوا يعتبرون ذلك كذبا وخرافات، وبعد ان التحقنا بوادي سيدنا صار كثيرون ممن كانوا “يكذبونني” يطلبون مني النصح في كيفية دخول دار الرياضة وشراء الدندرمة، وكان منهم من اشترى دندرمة في الاجازة ووضعها في الشنطة ليهديها الى إخوته في الشمالية.. وكانت الرحلة من والى الشمالية في ذلك الزمان تتم عبر مسارين، أولهما قطار كريمة الذي قال عنه المنلوجست: قطر كريمة الما بتاخر.. مرة اتقدم وفات الدامر.. لكن قطرنا شهر في بربر .. مستنيه يجي يلاقينا.. لا تمحِنا ولا تبلينا.. شر السكة حديد أكفينا،.. تشتري المناديل والطواقي المشغولة بالكروشيه في شندي، وتشتري جنا الجداد (البيض) في الكاب، وتصل الى كريمة.. ومنها تركب لواري “المحيلة” أو الباخرة الى كرمة.. والطريق الآخر بالنسبة لنا اهل بدين، يبدأ من أكد التي تقابل بدين من الغرب، ومنها نركب اللواري الى ام درمان.. كانت تلك الرحلة ضربا من الانتحار، فليس على طول الطريق الذي كان اجتيازه يستغرق نحو 40 ساعة اية علامات، وكانت به اجزاء رملية في منطقتي الباجة وابوضلوع يجتاز اللوري الكيلومتر الواحد منها في ساعتين.. وكان هناك شيطان اسمه ابوكدوس كان يجري امام اللواري ليلا ونور باهت ينطلق من كدوسه ليضلوا الطريق في الصحراء النوبية ويهلك الركاب، ولكن ما كان يخيفني أكثر من ابو كدوس ذاك هو ان سائقي اللواري التي كنا نسافر عليها كانوا يتوقفون هنا وهناك ويخرجون زجاجات العرقي ويشفطون محتوياتها قبل استئناف الرحلة.. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني لا أفكر في العودة الى الشمالية مرة أخرى، وصرت عوضا عن ذلك أحمل بدين معي أينما عشت وذهبت

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com