جعفر عباس
الجلف صار نبيلا
كان الصول بابكر وهو جندي متقاعد هو المسؤول عن الانضباط في المدرسة يطوف بحجرات الدراسة مسجلا “الحضور والغياب”، ويقرع الجرس بإيقاع ثابت، ويتولى جلدنا بموجب روشتات/ وصفات كان المدرسون يكتبونها يحددون فيها عدد الضربات: خمس جلدات على الريق وثلاث جلدات بعد الغداء.. وكنا إذا ارتكبنا مخالفة وقرر مدرس ما تحويلنا الى الناظر نستجديه: الله يخليك حولنا على الصول بابكر يدينا عشرين جلدة… خليهم خمسين.. إعدام.. بس بلاش تودينا للناظر! كان خالد موسى لغزا بالنسبة لنا: كنا إذا زرنا بيته مهنئين بالعيد يتصرف كشيخ عرب.. علي بالطلاق ما تقوموا قبل الفطور.. وكان يدعو زوجته وابنتيه لمصافحتنا.. القهوة يا جماعة.. كعك زي ده عمركم ما شفتوه (وكان على حق فالكعك عندنا في الشمالية كان يسبب التهاب اللثة)، وكان عارفا بالقبائل والأنساب رغم انه أم درماني صرف، ولديه فراسة تجعله يعرف من اية جهة من السودان أتيت، بنظرة عابرة الى وجهك.. وكان يعتبر “أولاد بعد اللفة”.. يعني المنتمين الى المنطقة التي تقع شمال “لفة” النيل عند مدينة “أبوحمد”، وبالتحديد من نسل الشايقية والمحس والدناقلة والحلفاويين “كارثة اجتماعية ورمزا للجلافة”.. وكنا نكره ابناء أم درمان الذين كانوا يزاملوننا لأن خالد موسى كان يقول لنا نحن “أبناء بعد اللفة”: خليكم زيهم مهذبين ومهندمين ومتحضرين! وكنا من جانبنا نعتبرهم “سحاسيح” وهي كلمة كانت شائعة في ذلك الأوان لوصف الرجل المهتم بأناقته ومظهره، وكنا نعاير أولاد المدن بأنهم يستحمون مرتين في اليوم ويمسحون أطرافهم بالدهان.. يا للعار!
كنت – بدون فخر – أبلد طالب في الرياضيات في تاريخ التعليم في السودان، ومن ثم صار عقلي مصفحا لا يستوعب الفيزياء والكيمياء.. وصونا لكرامتي، كنت أزوغ من حصص تلك المواد وألجأ الى العنبر الذي كنت أعيش فيه في داخلية ابو قرجة ومازلت الى يومنا هذا لا أعرف لماذا يطرحون على الطلاب في حصص الجبر مسائل من نوع: س زائد ص تربيع مضروبة في ع أس خمسة تساوي صفراً .. علل!! لماذا أعلل طالما ان المسألة محسومة ونتيجتها معروفة؟ وما جدوى إضاعة الوقت والجهد طالما ان المحصلة النهائية “صفر”؟
ذات نهار كنت في العنبر هاربا من حصة رياضيات عندما دخل علي طفلان: كان احدهما ابنة الناظر والآخر قريبا لهم يقيم معهم.. كانا عائدين من المدرسة الابتدائية وطلبا مني ان ارسم لهما ماجد لاعب فريق المريخ الشهير وقتها وكمشجع متعصب للمريخ، جلست ارسم سبت دودو حارس مرمى عدونا التاريخي الهلال ملقى على الأرض وكرة ماجد تستقر في الشباك، ثم أحسست بأن الطفلين سكتا عن الكلام والحركة ورفعت رأسي ووجدت الناظر خالد موسى يقف ورائي بقامته الفارعة، فأصدر قولوني صوتا لا يبشر بالخير، وأحسست بضرورة اللجوء الفوري الى دورة المياه، ولكن جميع أطرافي كانت قد اصيبت بالشلل، وحاولت التحصن بشيء من القرآن ووجدت نفسي آتي بشيء من يس وشيء من الزلزلة وشيء من القارعة.. ثم تكلم الناظر: انت محسي (نوبي) لكن نبيل.. حب الأطفال لشخص ما دليل على أنه انسان فاضل.. وكدت ان أنهض لأبوس رأسه، ولكنه سألني عن سبب وجودي خارج “الفصل” فقلت له بكل شجاعة الانسان النبيل الفاضل إنني أكره حصص الحساب ومدرسي الحساب واتمنى ان اقتص منهم يوم الحساب، فنصحني بالجلوس في المكتبة كلما “زوغت” من حصة ما.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com