جعفر عباس

وهززت أعمدة الحكمة

[ALIGN=CENTER]وهززت أعمدة الحكمة [/ALIGN] كنت قد فصلت من المدرسة الثانوية قبل موعد الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية، لاشتراكي في نشاط معارض لأول ديكتاتورية عسكرية في السودان، وتقرر في بادئ الأمر حرماني وزملائي الآخرين من أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد من الجلوس للامتحان ولكن عددا من النقابات المهنية والمنظمات الطلابية والصحف، استنكرت ذلك القرار فسمحت لنا الحكومة بالجلوس للامتحان من المنازل، وكانت مدرسة ام درمان الاهلية الثانوية من نصيبي، وكنت كما ذكرت آنفا كامل الاستعداد للامتحانات، ولكنني كنت في حيص بيص بشأن امتحان الأدب الإنجليزي، فقد كان علينا ان نجيب عن سؤال واحد على الأقل من كل من الكتب الثلاثة المقررة ولم تكن بحوزتي نسخة من الكتاب الثالث وهو رواية “أعمدة الحكمة السبعة” للرجل الذي اشتهر باسم لورنس العرب، ولكن وقبل الامتحان بمهلة قصيرة جدا زارني في المدرسة الاهلية استاذ الأدب الانجليزي في مدرستي الأصلية “وادي سيدنا”، جون ميلون ونصحني بعدم إضاعة وقتي مع ذلك الكتاب، والاكتفاء بتلخيص فصلين منه وحفظ محتواهما ببغاويا وبعدها ليحصل ما يحصل.
كان الرجل يعاني من رجفة شبه مستمرة في أنفه، ومن ثم كنا نتهمه بأنه شاذ جنسيا، لأن ما يسمى بالرفرفة وهو تحريك احدى فتحتي الأنف كحمار انحشرت في أنفه نملة حمراء كان أسلوبا شائعا للمعاكسة والمغازلة، وطالما أن أنفه يرف ويرتجف في مدرسة أولاد فلابد أنه “شاذ”.. المهم جاء يوم ورقة الأدب الإنجليزي، وقلبتها ويدي ترتعش ثم وجدت سؤالا يتعلق بأحد الفصلين اللذين نصحني الخواجة بحفظهما عن ظهر غيب، وشرعت في صب الإجابة المتعلقة بسؤال رواية لورنس على عجل خوفا من ان تطير من رأسي، فالأشياء التي يحفظها الانسان عن ظهر قلب ومن دون فهم، لا تبقى في الذاكرة طويلا.. وبينما انا منهمك في الكتابة انفتحت نوافير أنفي، وبدأ دم شديد الاحمرار يتساقط على قميصي، ولكن هيهات ان أتوقف.. كان المراقب أستاذي محمد احمد عبدالرحيم الشهير بـ “توتي”.. كان قد درسني في البرقيق الوسطى ثم نال الدرجة الجامعية من بيروت ودرسني في وادي سيدنا وها هو القدر يأتي به في المدرسة الاهلية الثانوية ليراقبني في امتحان حاسم.. اندفع توتي نحوي مذعورا وحاول ان يجرني الى خارج قاعة الامتحان لإيقاف الرعاف ولكن هيهات.. جلست مثل ابي الهول صامدا وقلمي يتحرك حتى فرغت من الإجابة المطلوبة وفرغ جسمي من الدم الفاسد (في الخطرفات الفلوكلورية في السودان ان اي دم يخرج من الجسم فاسد).. وبعدها سرت مع توتي الى خارج القاعة حيث صبوا على رأسي ماء مثلجاً وأوقفوا النزيف وطلب مني توتي ان اعود الى القاعة رابط الجأش لأواصل الامتحان فقلت له: لا تخاف علي،.. الديتستنكشن (تقدير ممتاز) في جيبي.. وأنهيت الامتحان ثم سقطت أرضا.. ولا أدري كم من الوقت استغرق الجماعة لإفاقتي، وسمعتهم يتحدثون عن نقلي الى المستشفى فصحت رافضا ذلك، وطلبت منهم ايصالي الى البيت، فكل ما كان يعنيني والليل قد دخل، ان أجد وسيلة تجعلني أتفادى اجتياز المقابر لأصل الى مقر إقامتي في حي الثورة.
بعد أن غادر أستاذي جون ميلون السودان عاد الى اسكتلندا وأنشأ دارا للنشر أصدرت كتبا قيمة لتدريس الإنجليزية كلغة ثانية وأجنبية، وكان معظمها مخصصا للطلاب السودانيين، وبحكم معرفته بالأخطاء الشائعة بين العرب الدارسين للإنجليزية فقد أصبحت بعض كتبه مراجع لا غنى عنها لمدرسي اللغة الإنجليزية.. ولو خفف ميلون من جرعات الويسكي لكان له شأن أكبر، فقد كان – حتى وهو يدرسنا الانجليزية في المرحلة الثانوية – يدخل علينا وبخار الويسكي يتطاير من فمه مع كل كلمة.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com