جعفر عباس

كوستي والشريفة

[ALIGN=CENTER]كوستي والشريفة [/ALIGN]

للتذكير فقط فإن مقالاتي هذه طوال الشهر الماضي ومستقبل الأيام هي جزء من سلسلة، “سيرة وطن في مسيرة زول” وقد وصلت المسيرة مدينة كوستي على النيل الأبيض جنوب الخرطوم حيث استقرت عائلتي منذ أوائل الخمسينيات، وكانت كوستي في تلك الايام في طليعة المدن “القارئة”.. في الأمسيات كان المئات يحاصرون كشكا قرب مبنى البريد لأن الصحف والمجلات كانت تصل مكتبة مصطفى محمد صالح، فقد كان مشترك (قطار) الأبيض يصل محطة كوستي في الرابعة والنصف تماما بانتظام، وفي نحو الخامسة كان الناس يحاصرون المكتبة للحصول على الصحف السودانية اليومية، وبعض الصحف المصرية، وخاصة الأهرام، وفي زمن لم تكن فيه مساجد في الأحياء ولا مكبرات صوت في المساجد الكبيرة كان أهل كوستي يعرفون ان موعد صلاة العصر قد دخل بسماع صافرة قطار الأبيض.. وعلى بعد أمتار من تلك المكتبة أقام يونس الدسوقي مكتبة متخصصة في بيع الكتب، وكانت المكتبة شغالة بالخسارة منذ يومها الأول لأن زبائنها كانوا من المثقفين المقطعين الذين يشترون كل شيء بالجرورة (الدين) ثم ينسون أمر السداد، ولكن الدسوقي أبقى عليها مفتوحة لأنها بالنسبة اليه كانت منتدى ثقافيا واجتماعيا ولأنه لم يكن يعرف شيئا عن حسابات الربح والخسارة (رغم أنه شايقي والشايقية كانوا “حضارم” كوستي بمعنى انهم كانوا يسيطرون على تجارة القطاعي في المدينة ويملكون أكثر من نصف بقالاتها)، كان يونس شيوعيا ويدير المكتبة باعتبارها منبرا لـ”التنوير” ولجذب الناس الى الفكر الماركسي باستدراجهم لقراءة الكتب “التقدمية” عوضا عن تلقينهم الأفكار شفاهة.
ومن أجمل ذكرياتي عن تلك الفترة في كوستي، أن طلبة المدارس الثانوية والجامعات كانوا يشكلون اتحادا طلابيا مؤقتا خلال الإجازات الصيفية، وكان مقره المعتاد (خلال ساعات النهار) نادي كوستي في حي المرابيع، وكان الاتحاد معنيا بالأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية.. ولأن المدينة كانت صغيرة وبها أنشطة متنوعة فقد كان الانتماء اليها سهلا لأنك تبقى فيها فترة قصيرة فيعرفك وتعرف الجميع، رغم ان سكانها (لحم راس).. عرب بحر ابيض ومهاجرون من كردفان وشايقية.. ولكن شيئا فشيئا أصبح النوبيون من محس ودناقلة يشكلون فيها أغلبية، بحيث صار من الصعب على الكثيرين تصريف شؤون حياتهم لعدم معرفتهم باللغة النوبية.. ذات مرة كان احد بلدياتي النوبيين يعمل في المطعم الذي يملكه والدي ووقف امام زبون وبدأ يعدد له الأصناف الموجودة والزبون جالس فاغرا فمه وكأنه جالس في مطعم صيني: إندنا ملكية ولهم بالسلسة وأدس!! يقصد: عندنا ملوخية ولحم بالصلصلة وعدس، ثم التفت الي وكنت اجلس فيما يسمى البنك حيث تحصيل النقود: جافر.. أويي جاوكا أرابيلوق منقا أيينا (جعفر.. ما هي التسمية العربية لأويي جاوا التي هي البامية الطازجة؟).. يعني – اسم الله عليه – هو يعرف أسماء كل الأطعمة بالعربية ما عدا البامية… نفس الجرسون قال لاعرابي “عندنا كذا وكذا” ومن بينها “شريفة” وهي اسم الدلع في المطاعم للملوخية، فحسب الأعرابي أن الشريفة هذه أكلة تجنن كما يوحي اسمها، ورغم ان شكل الطعام الذي وضعه الجرسون أمامه لم يكن يوحي بالطمأنينة، فإنه غمس فيه قطعة الرغيف، وتخيل خيبة أمله عندما اكتشف انها الملوخية التي جاء الى المطعم هربا منها.. وهكذا نادى الجرسون وطلب منه ان يعمل “سَكّو” للملوخية.. وسكو هذه في قاموس المطاعم تعني “الإلغاء” ولكن الجرسون قال له ان عليه ان يأكل الملوخية ثم يدفع قيمتها، فلما رفض الزبون ذلك امسك الجرسون بطرف جلابية الرجل وصب فيها الملوخية وقال له: دلوقتي هتدفع وللا إندك (عندك) كلام؟ ولسوء حظ الجرسون فإنه لم يكن يعرف ان الزبون من الجنجويد (من عرب غرب السودان وستصبح هذه الكلمة سارية في قاموسي بأثر رجعي).. ولولا تدخل عم الخواض وكان جعليا قوي البنية يملك مقهى ملاصقا لمطعمنا، لانتقلت روح الجرسون الى بارئها، من أجل صحن ملوخية قيمته قرشان.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com