جعفر عباس

بدء سنوات العز

[ALIGN=CENTER]بدء سنوات العز [/ALIGN] يا الله صرت طالبا جامعيا، وجلست أعد الأيام في انتظار السفر الى الخرطوم والالتحاق بجامعتها الرسمية الوحيدة، وقضيت فترة الانتظار في استكمال مراسيم التحول من تلميذ الى طالب جامعي، وكان أهمها اقتناء بنطلونات، فحتى ذلك التاريخ لم يكن عندي سوى بنطلون واحد فاقع الصفرة، وأتذكر جيدا اسم الخياط الذي خاطه لي، كان اسمه حبيب، وكانت تلك اول وآخر تجربة له في ذلك المجال فقد كان من فئة خياطي البرندات، أي اولئك الذين يضعون ماكيناتهم أمام المتاجر والبقالات ويخيطون الملابس البسيطة مثل السراويل العادية والقمصان البلدية التي نسميها في السودان العراريق (ومفردها عراقي بفتح العين وتشديد الراء المفتوحة)، وتزودت بكذا قميص جديد، وكان وضعي المالي أكثر من ممتاز، فقد كنت حريصا على العمل خلال العطلات الصيفية كما كنت أختلس مبالغ بسيطة كلما جاء دوري في تحصيل النقود في المطعم المملوك لوالدي، ومع هذا فما ان جاء يوم سفري الى الخرطوم للالتحاق بالجامعة حتى وجدت الكثير من الأيدي تصافحني ثم تترك في كفي شيئا من المال: هناك من اعطاني 25 قرشا أو عشرة قروش وبعض ميسوري الحال اعطوني خمسين قرشا.. تلك كانت عادة اهلنا عند توديع كل من يسافر وكانت مثل تلك العطايا المالية تسمى “حق الطريق”.
ووصلت الخرطوم وتوجهت على الفور الى الجامعة، وهناك دلوني على مكان إقامتي، وكان “داخلية بحر الزراف” في مدخل ما يعرف بالبركس والتسمية تعود الى الحقبة التي كان الجيش البريطاني يتخذ من تلك المباني معسكرا وثكنة مbarracks.. يا سلام غرفة نظيفة وسرير عليه مفارش ناصعة البياض وهناك سرير إضافي لكل طالب في الفناء الواقع أمام الداخلية، لأن الطلاب كما عموم اهل السودان كانوا ينامون في “الحوش” صيفا.. والأكل المجاني، وأكل مش أي كلام بل على مستوى! وتترك سريرك مبهدلا ويأتي فراش مقيم ليعيد ترتيب كل شيء في الغرفة.. وحدث التآلف بيننا في السكن الداخلي بسرعة حيث أقامت لجنة مسؤولة عن المناشط حفل استقبال وتعارف لنا كما كان كل واحد منا يعرف سلفا طلابا سبقوه الى الجامعة من مدرسته الثانوية او زملاءه من تلك المرحلة الذين تم قبولهم في الجامعة في نفس السنة.
ولكن بقي التوتر في انتظار بدء الدراسة.. تم قبولي في كلية الحقوق/ القانون، ولم أكن راغبا في الدراسة فيها ولكن ابن عمتي محمد صالح عمر الذي استشهد لاحقا وهو يقاتل قوات نميري في جزيرة أبا كان عضوا في لجنة القبول في الجامعة ممثلا لكلية الحقوق وادرج اسمي فيها لأنه كان يعتقد انني أملك الاستعداد للنجاح في مجال القانون كطالب او مهني.. المهم كان التوتر الذي يعانيه البرالمة كما يسمى طلاب السنة الاولى في الجامعات السودانية (والكلمة مأخوذة من الاسم الانجليزي لتلك المرحلة preliminary وتُختصر prelim بريلِم.. وراحت ضحية التعريب العشوائي بل لها صيغة مؤنث ويقال عن الطالبة الجديدة في الجامعة أنها برلومة).. كان منشأ التوتر تهيب تجربة التعليم المختلط: أليس الجلوس مع بنات في نفس حجرة الدراسة دليل نقص في الرجولة؟ وأليس جلوس البنات مع الاولاد في قاعات المحاضرات نوعا من قلة الحياء؟.. لحسن حظنا لم تكن بكلية الحقوق سوى بنت واحدة هي نائلة بابكر وكنا نتجنبها.. ولم اتعرف بها إلا في سنتي الثالثة في الجامعة ووجدت فيها إنسانة ذكية وعالية الثقافة والهمة وتتمتع بنضج سياسي واجتماعي أضفى على شخصيتها هيبة في الاجتماعات الطلابية.
فارقت كلية الحقوق، لسبب غريب، فقد التحق بالكلية محاضرا الدكتور حسن الترابي، وهو يحمل دكتوراه طزة من كلية القانون في السوربون في فرنسا.. نعم حسن الترابي القائد الاسلامي المعروف الذي كان حاكما بأمره في السودان لسنوات ثم صار “محكوما عليه بسنوات”، وكان يدرسنا مقدمة القانون الجنائي، وكانت الانجليزية لغة التدريس في المرحلتين الثانوية والجامعية، ولكن الترابي قرر ان يدرسنا بالعربية، في غياب أي مرجع او حتى مجلة باللغة العربية في مكتبة الكلية، وبالتالي وجد كثير منا صعوبات جمة في متابعة المنهج الذي يدرسه الترابي، وبيني وبينكم كانت اللغة الإنجليزية هي حبي الكبير، فهجرت كلية الحقوق وقدمت اوراقي الى كلية الآداب ولكنهم قالوا لي: فات الميعاد وفوت علينا مع بداية العام الدراسي الجديد لألتحق بكلية الآداب في العام الدراسي التالي.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com