جعفر عباس

أباظة والورقة “البايظة”

[ALIGN=CENTER]أباظة والورقة “البايظة” [/ALIGN] كانت السنوات التي قضيتها في جامعة الخرطوم شديدة الخصوبة، “مما جميعه”، أكاديميا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا، من الناحية الأكاديمية درسنا كل شيء على أيدي عمالقة في مجالات تخصصهم، ففي مجال اللغة العربية – وعلى سبيل المثال لا الحصر- كان هناك الأديب والعالم اللغوي الفذ عبدالله الطيب وبروفسور غنيمي هلال الموسوعي العارف بآداب الصين وإسبانيا وفرنسا معرفة تخصصية.. تعمق غنيمي (المصري) في دراسة الأدب السوداني وطرح على كليتنا (الآداب) دراسة الشعر الصوفي السوداني، وكان وهو يحدثنا عن هذا اللون الشعري تنتابه نوبات “دروشة” فيتكلم بلا توقف وهو لا ينظر إلى الطلاب، وأحيانا يهمهم بكلام تعجز أذنه هو عن التقاطه.. ولأننا كنا نحبه جدا فقد كنا نجلس أمامه كالخشب المسندة لا نفرفر ولا ننطق بشيء.. في العلوم السياسية كان هناك البروفسران جعفر بخيث ومدثر عبدالرحيم.
بالنسبة لي كان الانتماء والانحياز لشعبة اللغة الانجليزية تاما وكاملا، فقد كنت وماأزال عاشقا لتلك اللغة، وبادلتني عشقا بعشق فصارت سلاحي عندما دخلت الحياة العملية، كان رئيس الشعبة على أيامنا بروفسور مكميلان، وكان إنجليزيا من الطراز التقليدي، ولحسن حظنا لم يكن يدرس إلا مادة النحو (القرامر) الحديث، وبالتالي لم تكن له أكثر من محاضرة واحدة في الأسبوع من المستوى الأول حتى الخامس، وكان هناك حبيب الجماهير جون أباظة.. إنجليزي معتق ينحدر من العائلة الأباظية في مصر، ومشهور عالميا كأبرز دارسي مسرح شكسبير.. في أول سنة في الكلية كاد أباظة أن يوديني في داهية، ففي امتحان نصف العام كنت الطالب الوحيد الذي لم تظهر نتائجه في الأدب الإنجليزي، وسألت بعض الأساتذة الذين يدرسون فروع تلك المادة وطمأنوني بأنني أحرزت درجات طيبة في الفروع التي تخصهم، وأخيرا ذهبت الى أباظة فأخرج ورقتي وعليها علامات استفهام عديدة.. خير يا مستر بظبظ!! اتهمني بأنني دخلت الامتحان، حاملا معي كتابا لـ “برادلي” أحد مشاهير نقاد شكسبير ونقلت منه بالمسطرة.. حلفت له بالطلاق أن ذلك لم يحدث فكان رده ما معناه: مش لما تتجوز الأول.. المهم: هو يتهم وأنا أنكر، فصار يقرأ لي مقاطع مما نقلت عن برادلي وكاد فكه الأسفل ان ينفصل عن بقية رأسه عندما وجدني أكمل كل عبارة شفاهة من دون أن أنظر الى الورقة.. شلت الدهشة لسانه لبعض الوقت وصاح: وات؟ هل تقصد انك تحفظ مقتطفات من كلام برادلي الأبله هذا عن ظهر قلب؟ قلت “نعم”.. فصاح مجددا: آند واي دو يو دو ذات؟ ولماذا تفعل ذلك؟ قلت له إنني لا أتعمد الحفظ ولكنني احفظ أي شيء أقرأه عدة مرات، وكي أؤكد له ذلك رددت أمامه مقاطع من شعر شكسبير من مسرحيات وسوناتات مختلفة.. هنا تحول الاتهام بالغش والسرقة الى “إعجاب” ولكنه قال لي بحزم: دونت كووت برادلي (لا تنقل نصا عن برادلي) وحدثني مطولا عن ان برادلي ناقد ساذج كثير الشطح والنطح.. وبعد امتحان آخر السنة استدعاني أباظة مجددا، وقال ضاحكا: تركت برادلي ومسكت في ويلسون نايت؟ وللأخير عدة كتب في منتهى الحلاوة عن مسرح شكسبير، وكالعادة كنت قد حفظت مقاطع من آرائه عن ظهر قلب، وأوردتها في ورقة الامتحان.
إيييه ما دائم إلا الله.. اليوم عندما يسألني مسؤول ما عن اسمي الثلاثي، أنظر إلى أعلى ثم أهمهم: جعفر آآآآآ جعفر عتريس.. لا إدريس.. غبوش.. استغفر الله.. جعفر عباس، ولو جاء مثل هذا السؤال في مطار “عينك ما تشوف حتى النور”.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com