جعفر عباس

المندكورو في رمبيك

[ALIGN=CENTER]المندكورو في رمبيك [/ALIGN] يا للسعادة، فمدرسة رمبيك الثانوية التي نقلوني إليها، في أم درمان ست ستات مدن السودان، وليس في جنوب البلاد، حيث التمرد الذي أهلك آلاف العباد، وفي أول يوم في المدرسة وجدت نفسي في جو غريب خلال اجتماع لهيئة التدريس.. مدير المدرسة ونجت برسوم مسيحي قبطي، وكان علما على رأسه نار في مجال التدريس والإدارة المدرسية،.. وبدأ ونجت يقدم لنا أسماء الحضور: أبونا فلان الفلاني.. كيف يكون “أبونا” وهو شاب في الثلاثينات؟ ثم أبونا فلان الفلتكاني.. هذه مدرسة نظامها جديد علي، لأن بها شعبة للديانة المسيحية يعمل بها قساوسة.. وكان بها معلمون مسلمون يدرسون التربية الإسلامية، وكانت هناك علاقات خاصة وحميمة بين جماعة التربية المسيحية وجماعة التربية الإسلامية.. وكان بالمدرسة عدد كبير من المدرسين الجنوبيين، ولكن الجو العام للمدرسة لم يكن فيه ما ينم عن وجود ما يفرق بين الشريحتين، بل كنا نتناول وجبة الافطار سويا، وكثيرا ما كنا شماليين وجنوبيين نلتقي بعد نهاية اليوم الدراسي في أماكن ترفيهية او في بيوت المتزوجين منا.
وفي أول درس قدمته، فوجئت بأن عددا كبيرا من الطلاب أكبر مني سنا: اسمك إيه يا عمو؟ اسمي جون ماجوك .. ولماذا تأخرت مسيرتك التعليمية فصرت طالبا بالمرحلة الثانوية وعمرك فوق الثلاثين؟ كنت رائدا في حركة التمرد “أنيانيا”.. ثم قررت مواصلة تعليمي.. وفي كل صف دراسي كنت أجد الرقيب فلان والنقيب علان، ممن كانوا يحملون السلاح ثم عادوا من الغابة الى مقاعد الدراسة، وكانت هذه الفئة من الطلاب هي الأكثر انضباطا ورغبة في التعلم، ولكن وبكل صدق وثقة أقول إنني عملت في نحو خمس او ست مدارس ثانوية، ولكنني لم أجد في أي منها طلابا مؤدبين ومهذبين ومنضبطين مثل طلاب مدرسة رمبيك الثانوية، وكانوا جميعا من جنوب السودان.. كان بعض طلابي من ذوي النزعات الانفصالية الصريحة ويناصر حركة التمرد، بل كان منهم من يكره اهل شمال السودان ويسميهم “مُندكورو”، ولكنهم وفي علاقتهم بنا كانوا جميعا يتحلون بالأدب وحسن السلوك والأداء الأكاديمي، ولكن وبالتأكيد كان من الواضح انهم ينتمون إلى ثقافة تختلف عن ثقافة أهل الشمال.. خذ في الاعتبار ان معظم الطلاب جاءوا من الجنوب الى ام درمان رأسا من دون سابق تواصل مع المجتمع الشمالي.
ولكن أسرة التعليم من شمال السودان في تلك المدرسة كانت منسجمة مع الطلاب، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية وانتماءاتهم السياسية، وبما ان معظم الطلاب فيها كانوا قد تلقوا تعليمهم بالإنجليزية في مراحل ما قبل الثانوية في مدارس كنسية تبشيرية، فقد كانت مهمتي كمدرس لغة انجليزية سهلة، .. والأهم من كل ذلك أن الطلاب كانوا يلتزمون الهدوء التام اثناء الحصص الدراسية، بل وكان الطلاب يزجرون كل من يثير ضجة ولو عفويا بأن يجر كرسيه على أرضية حجرة الدراسة محدثا صريرا.
كان مبنى المدرسة بائسا وغير لائق،.. بناء طيني يعود الى العصر الحجري الوسيط، وغرف دراسة ضيقة لا يستطيع الطالب الجالس في الصفوف الخلفية الخروج منها إلا قفزا أو بعد زحزحة المقاعد و”الأدراج”، ذلك ان نقل المدرسة من الجنوب الى الشمال تم على عجل وبطريقة مكلفتة، وكنت أبدي ضيقي علنا من ذلك في اجتماعات هيئة التدريس، ويقول مدير المدرسة ونجت برسوم ان ريقه نشف وهو يخاطب وزارة التربية في ذلك الخصوص.. ثم دخل الطلاب في إضراب عن الدارسة مطالبين بنقل المدرسة الى مبنى لائق.. ودخلت أنا السجن.. نعم السجن والزنازين.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com