جعفر عباس

مناضل ونص وخمسة!!

[ALIGN=CENTER]مناضل ونص وخمسة!! [/ALIGN] قادني العسكر من مدرسة رمبيك الثانوية في أم درمان بعد صدور أمر باعتقالي وإيداعي السجن، بوصفي خائنا لـ”الثورة”، ومن مروجي الفتن التي تستهدف “أمن ورخاء واستقرار وطننا الحبيب”، وقد كنت بالفعل خائنا لـ”الثورة” وهي كلمة تستخدم كاسم دلع للانقلابات العسكرية، والثورة التي خنتها كانت تخص جعفر نميري الذي استولى و”صحبه الكرام” على مقاليد السلطة في 25 مايو من عام 1969، وقد كنت معارضا لحكمه ولكن بأسلوب أضعف الإيمان أي باللسان، ويؤسفني أنه ليس لدي سجل نضالي حقيقي اتباهى به ولكن قرار حكومة نميري بإيداعي السجن أهلني لنيل لقب “مناضل”..هي الألقاب بفلوس؟
ورغم أنني ظللت وبكل فخر أعارض جميع الحكومات المتعاقبة في السودان، إلا أنني لم أمارس معارضة فعالة بمعنى أنني لم أكن نشطا في إطار أي تنظيم معارض طوال حياتي، وإنصافا لحكومة نميري فقد كان لديها ما يبرر اعتقالي، فقد كانت لدي صلات قوية بشيوعيين بارزين، وكنت معجبا بالحزب الشيوعي خلال معاركه الشرسة مع حكومتي ابراهيم عبود وجعفر نميري العسكريتين، وسردت من قبل كيف أنني أعجبت بالطفرة الغنائية والموسيقية التي أحدثها المطرب السوداني الكبير الراحل ابراهيم عوض، وكيف أن والدي كان يزجرني بعنف إذا ضبطني متلبسا بالاستماع الى أغنياته، وكانت أغنية “حبيبي جنني” التي سطع بها نجم أبوخليل، مكروهة من جيل الكبار، من منطلق أنه لا يليق برجل ان يقول: “حبيبي جنني وغير حالي/ وحيّر فكري وشغل بالي”، ولكي ينفرني من ابراهيم عوض زعم والدي أنه شيوعي فاستنتجت في سري أن حزبا ينجب موهبة أحدثت ثورة في فن الغناء السوداني لابد أن يكون جديرا بالإعجاب.
من بين القادة الشيوعيين البارزين كانت تربطنا علاقة عائلية قوية مع الراحل الكبير الخاتم عدلان، بدأت بزمالة بينه وبين شقيقي محجوب في جامعة الخرطوم، وكان الخاتم شخصا حاد الذكاء ومرحا وودودا وعنيدا شديد الكبرياء، وكثيرا ما قضى في بيتنا في كوستي جانبا من إجازاته السنوية كطالب، وعندما بات الخاتم مطاردا من قبل أجهزة أمن نميري، أصبح “تأمين” الخاتم، بمعنى إخفائه واجبا اضطلع به جميع أفراد عائلتي بمن فيهم أمي رحمها الله، كنا نؤويه في بيتنا ثم نشرف على انتقاله الى بيوت أخرى، عندما نستشعر الخطر،.. وعندما جاءت حكومة “الإنقاذ الوطني” الحالية بانقلاب عسكري في يونيو من عام 1989 وأصبح الخاتم في قائمة المطلوبين أمنيا، ظل أفراد أسرتي يسهمون في تأمين تحركاته وتنقلاته، وكانوا يلتقون به مرارا، وكان يراسلني في تلك الفترة بانتظام، وأطلعني في إحدى تلك الرسائل، بأنه قرر هجر الحزب الشيوعي والماركسية، ولم يقع في قبضة أجهزة الأمن بل نجح في التسلل الى خارج السودان في أوائل تسعينات القرن الماضي، ولم يعد إليه إلا محمولا على آلة حدباء ليدفن في قرية أم دكت الجعليين في منطقة الجزيرة.
يعني كنت استأهل السجن رغم أن أجهزة الأمن لم تكن تعرف بأمر مساهمتي في إخفاء الخاتم عدلان عن أعينها، واتضح لي لاحقا ان جعفر نميري كان يكرهني “لله في لله” إذا جاز التعبير، ربما كان يحب فاروق الفيشاوي ويعرف أنني أكره الفيشاوي مثل كرهي للخفافيش.. فبعد خروجي من السجن، وعودتي الى مهنتي كمدرس، صار وهو رأس الدولة وزيرا للتربية بالوكالة.. (ربما لحبه للتكويش.. تذكرت هنا قريبنا النوبي الذي رأى نعامة لأول مرة في حديقة الحيوان وسأل مرافقه عنها فأجابه: ده الدجاج بتاع ناس الحكومة فما كان من بلدياتنا إلا ان صاح: الله يلعن أبو حب النفس).. المهم أصدر وزير التربية جعفر نميري قرارا بفصلي من الخدمة.. جزاه الله خيرا على هذا!!

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com