[ALIGN=CENTER]ذكريات من دفتري النضالي [/ALIGN]
سجن كوبر العمومي في الخرطوم بحري يبلغ الآن من العمر قرابة قرن كامل، ويحتل موقعا جميلا على النيل الأزرق ومحاط ببستان ومسطحات خضراء، وعند بوابته الرئيسية تحسب أنك في الأزهر.. آيات قرآنية مكتوبة بخط رقعة كبير وجميل في الواجهات.. والمباني تحفة معمارية من الحجر، ويتألف السجن من عدة أقسام لكل منها أسواره الخاصة وباب خاص، ويقال إن بذلك السجن 99 بابا داخليا، وللأقسام أسماء بعضها بحسب موقعها: الشرقيات والغربيات والشماليات.. وهناك “المعاملة” و”الكرنتينة” والمدرسة والورشة والسرايا، وغيرها، وكانت الزنازين الشمالية هي الأسوأ سمعة لأنها كانت موبوءة بالفئران.. بعد شهر أو اثنين من دخولي السجن انضم إليّ في الزنزانة في قسم الغربيات الجديدة، صديقي الراحل الخاتم عدلان، وحكى لي كيف أنه كان قبل النوم يرتدي بيجامة ثم يربط ساقيها بخيط قوي حول ساقيه منعا لتسلل الفئران!! في السجن يعطونك مع وجبة الإفطار ثلاث قطع من الرغيف.. واحدة للفطور والذي يكون عادة “فول” والثانية للغداء ويتألف إدامه من الفاصوليا أو الرز المطبوخ بالبصل والصلصة.. والرغيفة الثالثة للعشاء.. تأكلها حاف.. يعني لم يكونوا يقدمون لنا شيئا نغمس فيه الخبز في العشاء، وكان على السجين ان يحتفظ بتلك الرغيفة ليقرمشها بعد حلول الليل.. وقال لي الخاتم إنه كثيرا ما فوجئ عند مد يده الى الرغيفة الليلية بأنها تتكسر في يده كالبسكويت، والسر في ذلك ان الفئران المجرمة (ولو لم تكن مجرمة لعاشت في مكان غير السجن تتوافر فيه القمامة) كانت تتسلل الى الرغيفة وتأكل اللب الذي بداخلها وتترك القشرة الخارجية فتظل الرغيفة محتفظة بشكلها الخارجي.. وبالمناسبة فقد كان السجن نظيفا جدا، حيث كان السجناء العاديون مكلفين بتنظيف كل حوش وقسم وممر، وخلال الفترة التي بقيت فيها في الحبس الانفرادي في زنزانة، وبقية الزنازين حولي خالية من الضيوف، كان الترفيه الوحيد الذي أنعم به عندما يأتي محمد لتنظيف حوش الزنازين وأتبادل معه الحديث، وسألته ذات مرة عن سبب دخوله السجن فقال: كتلت (قتلت) زول.. حمدت الله وقتها بأنني في زنزانة محكمة الإغلاق، وأن ذلك القاتل لن يستطيع الوصول إليّ.. وأدرك محمد مدى خوفي وشرح لي ما حدث: أنا من أطراف الخرطوم وأبيع اللبن من على ظهر حماري، كل صباح لبيوتها وذات يوم “تلفظ” شخص بكلمات بذيئة بحقي، فضربته على رأسه مرة واحدة بعصا كانت في يدي فسقط ميتا.. ثم أضاف: سبحان الله هي نفس العصا التي أضرب بها الحمار عشرات المرات ولم يحدث قط ان تعثر الحمار نتيجة الضرب بها.. كدت أقول له إن الحمار لا يموت نتيجة الضرب لأنه “حمار” بينما القتيل آدمي، ولكنني فرملت لساني، وبعدها اكتشفت كم هو ودود محمد ذاك، بل اكتشفت لاحقا ان إدارة السجن لا تثق إلا بالمتهمين في جرائم قتل لخدمة المعتقلين السياسيين، لأنهم عادة أناس قرويون بسطاء ارتكبوا تلك الجرائم بغير تعمد، ويتمتعون بـ “عزة النفس” ولا يمكن ان يسرقوا ممتلكات السياسيين.
كان بالسجن خليط من الإسلاميين وقياديون في حزب الأمة والحزب الاتحادي وحزب البعث، ولكن غالبية النزلاء كانوا من الحزب الشيوعي، وكان قياديو تلك الأحزاب (ما عدا البعثيين) موزعين على أقسام ليس بها شيوعيون، وكان بعضهم من كبار السن ومن بينهم قطب الحزب الاتحادي المعروف أحمد زين العابدين، محتجزين بصفة دائمة في مستشفى السجن الذي حظيت بالإقامة فيه عن طريق الاستهبال نحو عشرة أيام، كانت من أحلى أيامي في السجن لأن المستشفى كان نظيفا جدا وكانت خدمات الطعام فيه فندقية.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com