جعفر عباس

في السرايا.. يا للسعادة

[ALIGN=CENTER]في السرايا.. يا للسعادة [/ALIGN] كانت الحياة في قسم السرايا بسجن كوبر العمومي صاخبة ومبهجة، حولك نحو مائتي شخص من كل مشارب ومسارب الحياة: وزراء سابقون وأساتذة جامعات ومهنيون من كل لون وسائقو سيارات أجرة و”ميكانيكية”، وقبل أن أنتقل إلى السرايا كان فيها “رأس الخروف”، وهو شخص أمي، كان سكران ويحمل “رأس خروف” محمرا، ليتناوله بعد وصوله الى البيت، وكان حظر التجوال قد بدأ فاستوقفته دورية عسكرية، فحسب أنها عصابة من قطاع الطرق تريد الاستيلاء على رأس الخروف، وبدورهم حسب العسكر أنه يحمل متفجرات أو منشورات سياسية وطاردوه.. استطاع ان يصل الى مقابر فاروق ويتخذ من شواهد القبور سواتر جعلت المطاردة صعبة على العساكر ولكنهم نجحوا في آخر الأمر في القاء القبض عليه متلبسا بحيازة راس خروف، وساقوه الى المخفر وهو يصيح: يا جماعة راسي.. راس الخروف.. وإلى حين تحري وضعه تم اعتباره معتقلا سياسيا ونقلوه الى كوبر.. وطوال وجوده في السجن، كان يردد: أنا ما خايف من السجن بس محسور وموجوع على راس الخروف (شخص معروف في الخرطوم أيضا تم ضبطه راقدا في حالة سُكر، في الحديقة الواقعة أمام القصر الجمهوري بعد سريان حظر التجول، وصاح فيه العسكر: يا زول .. انت مش عارف إنه في حظر تجول؟ فرد عليهم: منو اللي بيتجول.. انا راقد وما متجول،.. ضحكوا وأوصلوه الى بيته!!)
وكانت هناك جماعة حائط المبكى، وهم الذين لم يتحملوا السجن منذ يومهم الأول فيه، وكان معظمهم من فئة “شعب كل حكومة”، أي تلك النوعية التي ترسل برقيات التأييد لكل حكومة جديدة، وتخرج في مظاهرات تأييد لها، والغريب في الأمر أنهم كانوا من أبرز من شارك في المظاهرات التي سيرها الشيوعيون بعد استيلاء عسكريين يساريين على السلطة في يوليو 1971، بعد الإطاحة بحكم جعفر نميري، ولكن الانقلاب الذي قاده ضباط شيوعيون سقط بعد 3 أيام وعاد نميري الى الحكم، واستعرضت الأجهزة الأمنية أشرطة التلفزيون الخاصة بتلك المظاهرات ووجدت في صدارتها عددا من الناس تم اعتقالهم، ومن ببينهم جماعة حائط المبكى، واستحقوا التسمية لأنهم “فرزوا عيشتهم” من بقية المعتقلين ورابطوا ليل نهار قرب بوابة السجن الكبيرة، وظلوا يرسلون البرقيات الى رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية يلعنون فيها خاش الإسلاميين والبعثيين والشيوعيين والناصريين والبوذيين وجميع الأحزاب.
كانت السرايا مبنى جميلا مؤلفا من طابقين بكل منهما (إن لم تخني الذاكرة) أربعة عنابر ضخمة، وبينها ممرات تتسع للعشرات، وكان بها مسرح ومسجد، ثم نصبت خيمة عملاقة لاسيتعاب المزيد من الضيوف، وبما انها كانت تضم خليطا من كل المهن والمهارات والميول السياسية والفنية، فقد كانت السرايا عبارة عن ناد اجتماعي ثقافي يحفل بنشاط منظم: محاضرات وندوات ومسرحيات وغناء ومباريات كرة القدم (مصنوعة من الجوارب المحشوة بقطع الملابس، وكان النزلاء منقسمين الى أندية،.. كنت أشجع نادي الأرز (بفتح الهمزة في الألف الثانية)،.. وكان هناك نادي التعريفة، والتعريفة كانت تساوي خمسة ملاليم أي نصف قرش، وكانت التعريفة قبل أن يفقد الجنيه السوداني قواه العقلية تكفي لشراء وجبة فطور لتلميذ في المدرسة، وسر التسمية أن مجموعة من أبناء أم درمان بقيادة عالم الآثار الجهبذ البروفسور الراحل أسامة عبدالرحمن النور، عثرت على تعريفة في الجانب الخلفي من السرايا، ووجود أي نوع من العملة داخل السجن أمر خطير وجليل، وبالتالي كان لتلك التعريفة قيمة تاريخية، وتكريما لها، اتخذوا من موقع الحفريات الذي عثروا فيه على التعريفة مسكنا لهم، وصار هناك ناد يحمل اسمها ويخوض بالاسم المنافسات الرياضية والفنية.. الغريب في الأمر أن الديدبانات، وهم العساكر الذين يحرسون السجن من أبراج فوق الأسوار، صاروا ينحازون لهذا النادي أو ذاك ويتابعون المباريات بحماس بالغ.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com