جعفر عباس
أخيراً نجوت من الموت
وهكذا حددوا يوما للدخول في إضراب آخر عن الطعام، وجلست ألعن اليوم الأغبر الذي رماني في سكة الشيوعيين كي يقتلوني قتلا بطيئا.. فهمت لاحقا ان الشيوعيين يفتعلون “أنشطة” كالإضرابات ليس بالضرورة لتحقيق مطلب معين، ولكن كوسيلة للشحن السياسي المعنوي.. للإبقاء على ما يسمونه “الروح النضالية الصِدامية”.. يا رب أنا تكفيني “الروح” التي تبقيني على قيد الحياة، ولا أريدها نضالية أو صدامية.. وذات صباح استجاب الله لدعواتي، فقد دخل علينا عدد من حراس السجن وبدأوا في تلاوة اسماء المفرج عنهم ومن بينهم جعفر عباس سيد أحمد.. أتعرفون ماذا كان رد فعلي: أقسم بالله لم أفرح.. بل كلما أتاني زميل معتقل مهنئا بنيل الحرية أجهشت بالبكاء. بكاء صادق لفراق أناس أحببتهم وارتبطت بهم في لحظات شدة.. رجال أبطال من مختلف التنظيمات السياسية دخلوا السجن مرات ومرات قبلي، وعندهم زوجات وعيال ومع هذا لم ينكسروا او يتخاذلوا.. أشخاص رائعون أمضيت معهم عدة أشهر في السهر والسمر الممتع.. جميع من نالوا الإفراج كانوا يبكون ليس فرحا بالعودة الى بيوتهم بل لفراق “الصديق وقت الضيق”.
وكما فعل المفرج عنهم من قبلنا انقسمنا نحن من نلنا حريتنا الى مجموعات، كل واحدة تطوف ببيوت عدد معين من الذين مازالوا قيد الاعتقال لطمأنتهم على أحوالهم، وظللت أنتقل من بيت إلى بيت، ولم أدخل بيتنا إلا بعد الإفراج عني بنحو عشر ساعات.. وبعدها بأيام حان موعد إضراب الجماعة عن الطعام، وفي اليوم الثالث منه كانت وزارة الداخلية قد استجابت لمطالب المعتقلين وصرنا نحن الذين لم نشهد فترة “العز” تلك نتهكم على الذين نعموا بها بأنهم “مناضلون أي كلام” لأن السجن “باظ” وصار حال النزيل السياسي فيه أفضل من حال من يقيم بِحُر ماله وكامل إرادته في فنادق السوق العربي في الخرطوم، والتي كان من يريد الإقامة فيها يستأجر سريرا ضمن عشرات الأسرة الموزعة داخل الحوش، وكانت بها غرف خاصة ولكن الإقامة فيها كانت تعني ان تتقاسم السكن مع ثلاثة أو خمسة أشخاص لا تعرفهم ولا تربطك بهم صلة.
واعترف على مضض بأنني لم أغادر السجن بسجل نضالي ناصع، فكما أسلفت، عارضت كل المحاولات الإجرامية للتوقف طوعا عن الأكل كوسيلة للضغط على إدارة السجن لتحسين شروط الاعتقال، فعلت ذلك خوفا من التهلكة.. ولكن هناك فضيحة مدوية كنت طرفا فيها في السجن وقد استجمع شجاعتي واكتب عنها في المقال التالي.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com