جعفر عباس

الخروج من شرك “الاشتراكي”


[ALIGN=CENTER]الخروج من شرك “الاشتراكي” [/ALIGN] تتصرف الأنظمة الدكتاتورية أحيانا بغباء، مرده سوء الظن بالمواطنين عامة، ولكون الدكتاتور يرخي أذنيه فقط لمن يقولون له نوع الكلام الذي يريد سماعه، وقد دخلت السجن في ظل حكومة جعفر نميري، وخرجت منه وعدت إلى وظيفتي الحكومية مدرسا في المرحلة الثانوية، ثم رشحتني وزارة التربية والتعليم “الحكومية” لدارسة الإنتاج البرامجي التلفزيوني في بريطانيا، وتم تحويل أوراقي إلى جهاز الأمن للحصول على عدم ممانعة على سفري الى لندن، ولم يعترض الجهاز، ولكن أوراقي ظلت معلقة في مكان ما بحسب إفادة المسؤول عن استخراج تذاكر السفر في وزارة المالية، وبعد البحث والمتابعة اتضح ان أوراقي مركونة لدى “أمانة المهنيين” في الحزب الحاكم الذي شكله نميري (الاتحاد الاشتراكي)، وشأنه شأن التنظيمات المفبركة “من فوق”، كان الاتحاد الاشتراكي عبارة عن جهاز بيروقراطي ضخم به جيوش من الموظفين، ولم يكن واردا أن أدخل مبنى التنظيم حتى لو طارت البعثة الدراسية، ثم جاءني من يبلغني ان عز الدين السيد، وكان من قيادات الاتحاد الاشتراكي يريد مقابلتي، فأدركت على الفور أن هناك من أبلغه بأمر احتجاز أوراقي لدى الحزب الحاكم، وكانت علاقتي بعز الدين ولاتزال جيدة لكونه رجلا ودودا حبوبا وذا مروءة، وصاحب أياد بيضاء على المئات من أبناء منطقتنا في شمال السودان وبلدتي وبلدته بدين بالتحديد، وعلى الرغم من تباين مواقفنا السياسية كنت أكن له احتراما شديدا لأنه لم يكن من النوع الذي يقطع العلاقات الاجتماعية مع من يخالفونه الرأي والمواقف، ومازلت اعتبره نموذجا للشخصية العصامية، فقد بدأ حياته العملية مدرسا بالمراحل المتوسطة ثم شق طريقه في وزارة التربية بدأب جعله يفوز ببعثات ودورات دراسية في الخارج، ولما قرر دخول المجال السياسي وترشح في الانتخابات البرلمانية اضطر إلى بيع سيارته الفولكس واجن بيتل (الخنفساء) الكحيانة أصلا لتمويل حملته الانتخابية، ثم أسس واحدة من أكبر شركات التأمين وإعادة التأمين في السودان وقادها من نجاح الى نجاح.
المهم ذهبت الى عز الدين في مكتبه في الشركة، وسألني عن مصير سفرتي الى لندن فأخبرته بأمر الأوراق المحتجزة لدى “أمانة المهنيين” في الحزب الحاكم، فأمسك بسماعة الهاتف وقال لمن كان في الطرف الآخر: يا الرشيد.. هل في معارض يمكن يجي الخرطوم من لندن على دبابة ويقلب الحكومة؟.. ودار بينهما حوار قصير عن حكايتي، ختمه عز الدين بقوله: طيب كلم الجماعة يرسلوا الأوراق لمكتبي فورا.. وكان الرجل الذي على الطرف الآخر هو رئيس الوزراء الرشيد الطاهر الذي كان واضحا انه استهجن بدوره حرمان شخص ما من الدراسة في الخارج لكونه كان معتقلا سياسيا (من دون ان يواجه تهمة أو إدانة).. لم يحدث كل ذلك لأنني شخص مهم ولكن لأن المجتمع عموما كان محكوما بمنظومة قيم لا تسمح بالتشفي والانتقام.. وما تزال فينا بعض خصال حميدة تجعل بعضنا يسمو فوق الخصومات السياسية.. ولعل قراء الصحف السودانية تابعوا مؤخرا مقالي الذي شرشحت فيه وزير الدفاع الفريق عبدالرحيم محمد حسين لأنه دعاني الى عقد قران ابنه بمسج على الموبايل.. وقلت في المقال انني وعبدالرحيم لا نتفق حتى حول كروية الأرض، وفي اليوم نفسه الذي نشر فيه المقال التقيت الوزير في مقابر فاروق في الخرطوم لدفن جثمان عزيز راحل، فأمسك بي من يدي وقادني الى حيث كان يقف الرئيس المشير عمر البشير الذي صاح مهللا: أهلا أبوالجعافر ود حلتنا (ابن حيّنا).. عفارم.. مسحت بقريبك الأرض.. وتبادلنا حديثا ضاحكا.. والشاهد هو ان البشير كان يعرف ما أعنيه بأنني لا أتفق مع وزير دفاعه حتى حول كروية الأرض، ومع هذا لم ير بأسا في التبسط في الحديث معي (ولا شك ان جماعة الأمن من حولنا كانوا مندهشين لأمر ذلك الشخص النكرة الذي يرفع التكليف مع الرئيس).. ذلك بعض من طبع شعبنا أرجو له ان يتعزز.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com