[ALIGN=CENTER]فنشوني مترقيا [/ALIGN]
بدأت جريدة إمارات نيوز التي عملت فيها في أبوظبي تترنح، لأن معظم الموارد كانت مخصصة لشقيقتها “الاتحاد” العربية لأنها كانت بالفعل ناجحة وأرقام توزيعها في صعود مستمر، ولأن صحيفتين إنجليزيتين جديدتين دخلتا السوق بإمكانات مهولة، ولم يكن لجريدتنا أمل في منافستها،… وفي تلك الظروف الصعبة أسند إلي منصب مدير تحرير إمارات نيوز، وكان بالصحيفة من هم أطول مني باعا وعلما وفهما وخبرة ولكنهم كانوا في معظمهم آسيويين، وكانت إدارة المؤسسة حريصة على أن يدير الصحيفة العربية شخص ناطق بالعربية، وبعد نحو 4 أشهر، طلب مني المدير العام اقتراحات لتطويرها، فعرضت عليه دارسة أعدها الأستاذ محمد عمر الخضر عندما كان يشغل منصب مدير التحرير في العصر الذهبي للجريدة، ثم أحس في منعطف معين أن الصحيفة في طريقها الى الهبوط التدريجي (مع رجاء العودة الى مقاعدكم وربط الأحزمة) وفحوى الدراسة هو أن يتم إغلاق الصحيفة حتى ينساها القراء، ثم إعادة طرحها تحت اسم جديد، بعد توفير المدخلات الضرورية والكوادر البشرية.. نظر المدير العام إلي باستهجان: أقول لك تطوير الجريدة تقول لي سكِّرها؟ قلت: نعم، سكرها.. انقلب الاستهجان الى ضحك: أنت أكيد مو صاحي (واعي) شربت أو شميت شي؟ قلت له: شميت ريحة فشل الجريدة!! فسألني: تدري وش بيصير لو سكرنا الجريدة.. انت راح تتفنش وزملاءك راح يتفنشون.. قلت له: إذا كانت الجريدة تدار على أساس خيري ليكسب بعض الناس الرزق خلوها شغالة، ولكن حتما سيأتي يوم تغلقونها فيه وتفنشون العاملين فيها بالجملة.. وخرجت من اجتماعي ذاك مع المدير العام مفنشا أي مطرودا من إمارات نيوز، وغادرت مكتبه شاكرا.. شكرته لأنه نقلني الى جريدة الاتحاد العربية بدرجة “محرر أول”.. كان مديرنا ذاك (خالد محمد أحمد) يحب الصراحة ويكره النفاق ولهذا احترم صراحتي ونقلني من الجريدة المنهارة الى أختها العربية في درجة وظيفية أعلى.
ولكن كان لزاما علي أن أبقى في إمارات نيوز لنحو شهر، حتى تستقر أوضاع مدير تحريرها الجديد، البريطاني بيتر هيلير، وكان صاحبنا رجلا عجيبا، به غرام عجيب بالطيور، ويستيقظ في الرابعة فجرا كل يوم ليرصد الطيور في أطراف أبوظبي ويلتقط لها الصور، وأصدر فيما بعد كتابا أنيقا عن طيور الإمارات، وكانت له علاقات واسعة بمسؤولين عرب وأفارقة، وفي أول لقاء لي معه صار يسألني: من أي جزء في السودان أنت؟ هذا السؤال أتلقاه كثيرا من أناس لو قلت لهم إنني أنتمي إلى ذلك الجزء من السودان المجاور لزيمبابوي لما أدركوا أنني “مستهبل”، وقلت لبيتر من باب “قفل الموضوع” إنني من الخرطوم!! من أي جزء من الخرطوم؟ من الخرطوم بحري!! من أي جزء من الخرطوم بحري؟ من جبل الأولياء!! ولكن جبل الأولياء جنوب الخرطوم ولا علاقة له بـ “بحري”.. المهم اتضح ان بيتر هذا يعرف الخرطوم أكثر من معرفته بلندن، فقد كان متزوجا بسودانية هي حفيدة الزبير باشا تاجر الرقيق الذي تحول الى “مناضل” ضد الإنجليز،.. وظلت تربطني ببيتر علاقة قوية على مدى عدة سنوات، وقد ساعدني على “تكوين النفس” بأن جلب لي كتبا ترجمتها ونلت من ورائها الآلاف، ومن بينها كتاب عن جغرافية إرتريا، من تأليف الزعيم الإريتري الراحل عثمان صالح سبي، و”الكتاب السنوي لدولة الإمارات” لعام .1984 وسلمت بيتر الجنازة (الصحيفة) وظل يديرها وهي تترنح إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة، ولكنه ظل يذكرني بأنها دخلت مرحلة الموت الدماغي في عهدي الميمون، وبعدها تفرغت للعمل في صحيفة الاتحاد وارتكبت فيها هفوات كادت ان “تجيب خبري”، وهذه قصة أخرى.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com