جعفر عباس

مدينة في حديقة

[ALIGN=CENTER]مدينة في حديقة [/ALIGN] عندما وصلت الى أبوظبي في عام 1980 كانت مقلوبة فوق تحت، فقد شرعت الحكومة في إعادة تأهيل الطرق وتخطيط الأحياء، ومع هذا فقد وجدت نفسي قادرا على التعرف على معالمها بسهولة، فلأنها مدينة حديثة من حيث العمر، فإن تخطيطها يقوم على شوارع مستقيمة متقاطعة، ومن أكبر المشكلات التي أعاني منها ضعف القدرة على معرفة الأماكن والاتجاهات، والسر في ذلك أنه ليس لدي أي قدر من حب الاستطلاع فيما يتعلق بالمعالم العمرانية، ويصيبني اضطراب نفسي كلما رأيت سوقا أو متجرا، وهكذا قد أقيم في شارع معين من دون أن أعرف ما يسميه آخرون معالم: عمارة بوتيك صن مون ستار.. برج المريخ.. سفارة “دنقلاديش”، ذلك أنني أؤمن بالمثل السوداني القائل ما معناه “لا تحسب أيام شهر ما عندك فيه نفقة”.. فعلا لماذا تنشغل بأن اليوم هو 7 أو 59 فبراير طالما أنك لا تتقاضى أجرا عن ذلك الشهر؟ والمعنى العميق للمثل هو “لا تشغل بالك بأمور لا تعود عليك بالفائدة”، أما مدينة الدوحة التي أقمت فيها سنوات “متصلة” أكثر من تلك التي قضيتها في أي مكان آخر في العالم بما في ذلك وطني، فهي ذات تخطيط دائري، إذا واصلت قيادة سيارتك بلا توقف في الطريق الدائري الثالث مثلا، ستجد نفسك قد عدت الى نقطة البداية، وبحكم جيناتي العربيقية فإن مخي “صندوق” به أضلاع مستقيمة ولا يستوعب الأشكال الهندسية الأخرى، وقد شهدت الدوحة مؤخرا افتتاح شبكة أنفاق وجسور تختصر المسافات، وحاولت تجريب احدى تلك الطرق مؤخرا وأنا ذاهب الى المطار لاستقبال صديق، وانطلقت بالسيارة بلا عوائق لنحو 40 دقيقة ولكن لم أجد أثرا للمطار، وبعد “توهان” في منطقة مجهولة نحو ربع ساعة وقفت امام متجر وقلت للبائع الهندي: وين متار رفيق؟ فأشار: روه سيدا.. وأشار بيده إلى عكس الاتجاه الذي كنت أسير فيه.. ثم أكمل: بادين (بعدين) أسأل نفرات غير جدام!! يعني أعكس مساري ثم أبحث عن نفرات غير صاحبنا الهندي ليدلني على المطار.. ووصلت الى المطار وصاحبي قد بدأ يفكر في العودة.. وبعدها توبة.. أسلك الطرق الداخلية التي أعرفها مهما استغرقني ذلك من وقت.
أبو ظبي صممها شاعر اسمه زايد بن سلطان آل نهيان، ومن ثم جاءت حديقة وارفة يتخللها بعض البنيان، وقال لي مسؤول في إدارة الزراعة في أبوظبي إن الشيخ زايد – رحمه الله – كان يعرف كل نبتة في كل شارع وميدان في المدينة،.. ثم حكى لي شاب سوداني قصة قد يصعب تصديقها ولكنني أعرف أنه ليس من النوع الذي يفبرك الحكايات: قال إنه وفور وصوله الى ابو ظبي وجد في أسبوعه الأول هناك فرصة للعمل في دائرة الزراعة بالأجر اليومي المقطوع، (ورضي بها إلى أن يجد وظيفة تناسب مؤهلاته) وكان مكلفا بري الأشجار في الدوار في نهاية شارع المطار القديم عند الكورنيش، وذات مرة لاحظ نبتة لم يزرعها أحد ذات أوراق خضراء، فتركها تنمو حتى يبت في أمرها مسؤول يفهم في أمور النباتات… وبفضل السماد والماء الوفير نمت النبتة وارتفعت،.. إلى أن كان يوم زاره فيه صديق سوداني ما أن رأى النبتة حتى صاح: دي بنقو.. بتزرع مخدرات على حساب البلدية؟ فما كان من صاحبي إلا أن خلعها من لغلوغها وفي اليوم التالي مر عليه مهندس زراعي وسأله عن النبتة التي كانت “هناك”، فصارحه بالأمر فما كان من المهندس إلا أن قال له: لازم نجيب شتلة خضراء من فصيلة مشابهة لأنه من المؤكد انه لو مرّ الشيخ زايد من هنا فسيعرف أن هناك شجيرة مفقودة.. إلى هذه الدرجة كان الشيخ زايد يعرف طفلته أبو ظبي ولا يسكت عن أي تشويه يصيبها.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com