جعفر عباس

لا بارك الله في منتجات فرجينيا

[ALIGN=CENTER]لا بارك الله في منتجات فرجينيا [/ALIGN] طاب لي المقام في أبوظبي، وخاصة أنني أدركت أن ذهابي الى السودان في إجازة سيدخلني السجن بعد ان ردحت في حكومة نميري، في تجمع عام للسودانيين، بعد ان فرض على المغتربين ضرائب تعسفية بلا مبرر ولا مسوغ، وقضيت سنواتي الأولى فيها وأنا أعمل لدنياي كأنني أعيش أبدا، فقد كنت أصرف راتبي ثم أضعه في الدولاب (خزانة الملابس عند السودانيين والمصريين)، وأسحب من الرصيد يوما بعد يوم إلى أن ينتهي، ولم أكن اشتري الخضروات من السوق المركزي بل من أقرب بقالة، ولم أكن أنا أو أفراد أسرتي نعالج في المستشفيات الحكومية بل في العيادات الخاصة، وبكل فخر فقد قضيت 8 سنوات و3 أشهر في أبو ظبي من دون أوفر درهما واحدا، وهذه “سبهللية” في الإنفاق يمارسها الكثيرون في المراحل التي يكون فيها العيال دون سن الدراسة ثم يعضون بنان الندم لاحقا.
الاغتراب في الخليج كفل لي ولغيري العيش الكريم، في ظل خدمات راقية، ولكن ابن آدم (مفتري)، فقد كان دخلي الشهري في السودان (قبل الاغتراب) عاليا مقارنة بكلفة المعيشة، ولكن راتبي الشهري طفر طفرات أولمبية في الخليج، وكان من مساوئ تلك الطفرة أنني صرت أدخن سجائر الخواجات بشراهة.. كانت السجائر المحلية السودانية قد جعلت صدري يصدر أصواتا كنقيق الضفادع إذا ضحكت أو رفعت صوتي بالكلام، وبكل غشامة وبلاهة صرت أشفط كميات مهولة من التبغ الفرجيني (الفاخر) غافلا عن حقيقة أن في كل دخان سما وأن كل نَفَس سجائر يقصر من عدد أنفاسي ككائن حي، وذات يوم شعرت بحالة عجيبة يصعب شرحها.. حالة كتلك التي تصيبك عندما لا تنام لـ36 ساعة متواصلة: اضطراب في ضربات القلب.. تشويش.. فقدان القدرة على التركيز، واتصلت بصديق وشرحت له حالتي (وكانت زوجتي وقتها في الخرطوم)، فجاء وقادني الى المستشفى واتضح انني أعاني من ارتفاع “شاهق” في ضغط الدم 190/110، ولاحظت الحيرة في وجه صديقي .. طخوني إبرة وهبط الضغط قليلا بعد نحو ساعتين.. وأمروني بمقابلة أخصائي الأمراض (الباطنة) في اليوم التالي، ودخلت عليه وقاس ضغط الدم وسألني: ما الهباب الذي تتناوله ليجعل ضغط الدم عندك مرتفعا بهذه الدرجة وأنت شاب؟ فقلت له: هذا نصيبي من الورثة فوالدي كان يعاني من ارتفاع ضغط الدم .. المهم ظللت نحو سنتين أتناول العقاقير المخفضة لضغط الدم، من دون أن يحدث تحسن “حاسم”.. وذات يوم فتحت دولاب الملابس ووجدت فيه نحو ست علب سجائر، فأمسكت بها وفرمتها بأصابعي، وأنا أقول بصوت مسموع: “ما في زول مات من عدم التدخين ولكن في ملايين ماتوا بسبب التدخين”.. ولتعزيز المناعة ضد السجائر صرت لا أجالس المدخنين، وبعد نحو ستة أشهر كنت قد نلت البراءة من ضغط الدم.
ولكن، وكما أسلفت فإن ابن آدم (مفتري)، فبعد ان اطمأننت الى تخلصي من ارتفاع ضغط الدم، انتكست ومارست خداع النفس الذي يمارسه مدمنو التبغ: 4 أو 5 سيجارات في اليوم لا تضر ولا بأس بها، وصارت الخمس سيجارات عشرا، ولكن أم الجعافر بارك الله فيها سلطت علي ولدي البكر و”شحنته” بأن قالت له: “السجائر حيقتل أبوك”.. فصار صاحبنا يبكي كلما رآني أدخن ويصيح: أبوي ما تموت.. وصرت أدخن خارج البيت حينا من الدهر، ثم هجرت التدخين تماما.. بين الحين والآخر تجعلني النفس الأمارة بالسوء أمارس التدخين ولكن المهم في الأمر هو أنني أحس بالذنب كلما استسلمت لغواية التدخين وصرت أحصِّن نفسي بالابتعاد عن المدخنين وبالتعهد الصارم بعدم إنفاق فلس واحد على التبغ.. والأعمار بيد الله ولكن الله قيض لنا أسباب العافية وطول العمر ولو لم أهجر التدخين لربما كان أبو الجعافر اليوم في سلسلة “حضارات سادت ثم بادت”.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com