جعفر عباس

ذات الغنج والطيور

[ALIGN=CENTER]ذات الغنج والطيور[/ALIGN] طوال السنوات التي عملت فيها بشركة اتصالات قطر (كيوتل) تيقنت من صحة “نظريتي” بأن أهل المعرفة أكثر فائدة للمترجم من القواميس،.. مثلا – في المحاسبة – لا جدوى من البحث في قاموس عن معنى “الحسابات النظامية”، ولا مجال للفهلوة بصك ترجمة حرفية لها، بل المجدي هو أن تسأل محاسبا عن ماهيتها وفي أي سياق تستخدم ولتفيد “ماذا” .. ومثال آخر من عالم الحسابات: “الاستهلاك” المتعلق مثلا بالمعدات والأصول الثابتة (وما هي أصلا الأصول الثابتة)، فهناك إغراء ان تترجمها الى الانجليزية “كونسامشن consumption ولكنك بهذا تجعل نفسك أضحوكة.
المهم أنني وخاصة في الأشهر الأولى من التحاقي بكيوتل كنت أنشف ريق المختصين في كل مجال بأسئلتي المتكررة عن هذه وتلك، وكان صديقي هاشم مصطفوي من أكبر ضحاياي، فقد كان وقتها مديرا لإدارة الترددات والعلاقات الدولية، وبسبب اتصالاتي المتكررة به صرنا أصدقاء يسأل كل منا عن حال الآخر بين الحين والآخر من دون ان نلتقي، وكانت سكرتيرته الآسيوية تتولى استقبال مكالماتي وتحويلها إليه، وشيئا فشيئا صارت تميز صوتي وتتبادل معي التحية وعبارات البكش المعتادة.. كان صوتها ينقض الوضوء.. صوت فيه رقة ودلال وغنج.. وكان مكتب هاشم وقتها في حي المنصورة بينما كنت في المكتب الرئيسي في منطقة ميشرب في الدوحة، وبإلحاح من هاشم قمت بزيارته.. مررت بشخص في مدخل مكتبه وحييته على نحو عابر ودخلت عليه وبعد السلام والذي منه، سألته أين سكرتيرتك؟ فقال لي: توّك قابلتها قبل لا تدش علي!! قلت له إنني أسأل عن سكرتيرته فلانة ذات الصوت الكهربائي، فنطق باسمها ودخلت علينا.. كان الذي بينها وبين الأنوثة والدلال والغنج كالذي بين شعبولا والرشاقة والأناقة.. اعتبرت الأمر مزحة من هاشم ولكنها صارت تتحدث معي بنفس نغمة صوتها الذي اعتدت عليه: هاو آر يو؟ هاو إز ذا فاميلي؟ ولو أغمضت عينيك لحسبت أن التي تخاطبك هي سعاد حسني موديل 1965، وبمرور الوقت أدركت أن لها طبقتين صوتيتين: واحدة تذيب الصخر وواحدة تسبب القهر والضجر، بمعنى أنها كانت تفتعل الرقة والغنج في الكلام، وقلت لهاشم: أنت ما شاء الله عليك وسيم وأنيق فكيف بلغ بك فساد الذوق أن تصطبح كل يوم بواحدة لا تعرف لها جنسا لولا ملابسها ونبرات صوتها المفبركة.. كان وزنها نحو 32 كيلو وترتدي ثيابا تكشف عن عظام نخِرة، وتمنيت لو كانت مسلمة حتى يكون لي الحق في حضها على ارتداء التشادور الأفغاني (ثم دارت السنون وثبت ان وراء ذلك الصوت كانت تختبئ عفريتة، وتم التخلص منها بكل هدوء).. وأكدت تلك الوقائع أن المظاهر سواء كانت صوتا أو ملبسا أو حتى مسلكا خدّاعة وإن رقة الصوت لا تعني ان الشخص رقيق الإحساس، وأن القيافة قد تكون عنوان الهيافة.
كانت كيوتل “صغيرة” وكنت أكاد أعرف جميع العاملين فيها، ثم تحولت الى شركة امبريالية اخطبوطية، لها نشاطات في اندونيسيا وموريتانيا والشيشان وأم درمان وبلاد أخرى عجيبة، ولم انقطع عنها منذ ان تركت العمل فيها ولكنني صرت لا أعرف معظم موظفيها الذين التقي بهم في ممراتها.. كنت كمدير للعلاقات العامة اتباهى في المؤتمرات الصحفية بأننا حققنا أرباحا صافية قدرها 500 مليون ريال، ثم صارت الشركة تتعرض للنقد لأن أرباحها مليارا ريال فقط.. ابن آدم (مفتري).. ومن عجيب أمر كيوتل أن طاقم موظفيها ضم أشخاصا أسماؤهم كما يلي (والله لا أكذب): البطة، وحمام، وعصفور، وصقر، وشحرور!! شركة اتصالات أم محمية طبيعية؟

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com