تحقيقات وتقارير

المجانين في الشوارع : ابتلاء المرض .. وظلم المجتمع

بعد ان تخلى عنهم الاهل والام والولد في اصعب لحظات حياتهم، فها هم يتخذون من الطرقات مسكناً، في حرها الغائظ لم يجدوا الظل، وفي بردها القارس افتقدوا الغطاء، وتحت زخات المطر كانت اجسادهم قاعدة السقوط لهطولها، وان لم تكن الشوارع والطرقات مأوى لهم لكنها كانت.. وكانت مكانا للمبيت والاكل والشرب والمقيل، بعد ان فقدوا نظامهم العقلي الطبيعي ليقعوا في ظلم الطرقات والناس وظلم ارحامهم والدولة وجميع مسؤوليها ، ومع اهمال الحالات الموجودة يزداد العدد بمتواليات تقر بضعف القيم وتراجع المسؤوليات، الى درجة اصبحت فيها وانت عابر للشوارع والطرقات يجب عليك ان تكون اكثر انتباها، بل قد تحتاج احيانا الي النظر جهة الخلف عند سماع أية اصوات عالية، فحضور البداهة وسرعة التصرف هنا مطلوبة، خاصة اذا ما علمنا ان هذا القادم غير مساءل عما قد يبدر منه من تصرفات، ولم يكن فوق القانون.. ولكن رفع عنه الحساب كما رفع عنه القلم الى حين.. واصبحنا نحن من يقع علينا عبئه وهو في «ذمتنا»، هذا ما تعكسة لك مواقف المرضى النفسيين في الطرقات والشوارع والاسواق، فلا يكاد يخلو سوق شعبي او مركزي او محطة من بعض المرضى النفسيين .
تتكسر نظرات عينيك وانت تراهم في لحظات هدوئهم حين يرقدون على الارض ويتوسدون ذرات ترابها التي تصاحبهم في رحلات تحركهم، وينفطر قلبك عندما ترى احدهم قد تقطعت عليه ملابس رثة وهو يسير لا يدري بما حوله، مما يدعونا الى الاكثار من الحمد لله على ما نحن فيه من نعمة، ولكن في المقابل ما يجب ان نطرحه على انفسنا وبصوت عالٍ من لهم؟؟ فهم بشر يعيشون تحت خط الانسانية بعيداً عن تفاصيلها ومطالب الحياة وزينتها، ولكن يتعرضون الى أذاها ويتجرعون مراراتها، فلماذا نقاسمهم النصف المر دون النصف الحلو، انها انانية الانسان تفرض سطوتها والكل يغض الطرف عن قصد ليلغي المسؤولية على الآخر.
وبدون تردد قالت لي بائعة الملابس في السوق العربي والتي آثرت حجب اسمها، إن اجهزة الشرطة فقط المسؤولة عن حمايتهم، وعليها يقع عبئهم، حيث حدثتني بأنها تعمل في السوق قرابة عشر سنوات. ومن وجهة نظرها الخاصة انها ترى انهم يمثلون خطراً على أنفسهم أكثر مما يمثلون خطرا علي من حولهم.
التاجر عبد الحليم حسن قال لي إن المرضي الموجودين في السوق يكاد تعاملهم اقرب الى العادي، وما نلاحظه أن بعضهم يحتاج إلى قليل اهتمام وعلاج قد لا يستغرق زمناً طويلاً، وهذا ما لمسناه من خلال احتكاكنا اليومي بهم، فنحن نستخدمهم في قضاء بعض الاغراض الخفيفة التي تتناسب وحالتهم، مثل نقل النفايات من باحة المحل، ويتقبلون الكلمة البسيطة بالطريقة الهادئة، وان كانت هناك معاملة كريمة فهم يجدونها حين يجود عليهم الاكرمون بالأكل وشرب الشاي وما فاض من الملابس، الا ان الحكومة يجب عليها ان تراعيهم بسند من المجتمع، وعليها ان تخصص لهم كل عام ميزانية محددة مثلما يخصص ديوان الزكاة من ميزانيته للايتام والأرامل، ويجب أن تنظر اليهم بعين الرحمة لأنهم يوجدون في الشارع ويمثلون صورة مجتمعية سيئة.
وبعيداً عن هذا وذلك نجد أن هناك هوة فكرية كبيرة يجب ردمها أولاً، فعلى ما يبدو فإن الامراض النفسية لا تجد وجيعاً، وبالتالي تقل اعداد المشافي ويقل الاهتمام بها وبمرضاها.. ففي بلد يعاني الفقر والضغوط الحياتية اليومية لم يكن هناك بد من ان يجتمع التشرد مع عنصر المرض النفسي ليزيد من قسوة الألم.
ولكن أهل الاختصاص كانت رؤيتهم أوضح، حين تحدثت الى اختصاصي الأمراض العصبية والنفسية الدكتور علي محمد علي بلدو، والذي قال في بادرة حديثه إن هناك مضاعفات خطيرة تتمثل في اجتماع المرض النفسي والتشرد الذي يعني بالتأكيد عدم القدرة على العلاج، وهذا يشكل ظاهرة سالبة يمكن إجمالها في الاساءة للمظهر العام والاعتداء على المواطنين وتدمير الممتلكات وتدهور صحة البيئة، والخطورة التي يشكلونها علي انفسهم من الوقوف في الطرقات، اضافة الى ما يتعرضون له من ملاحقة ومطاردة.
وأرجع بلدو انتشار الظاهرة الى غياب قانون خاص بالصحة العقلية، مما ادى الى الاستناد الى المادة «118» من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م التي تنص على الحفظ والعلاج وتجميع المرضى من الشوارع ونقلهم إلى المصحات النفسية من أجل علاجهم وتوفير الدعم المالي لهم، ومن ثم اعادة دمجهم في المجتمع، ولكن للأسف المصحات النفسية والمرافق الصحية النفسية المتوفرة داخل ولاية الخرطوم لا تكفي لاستيعاب 1% من جملة ما نراه في الشوارع والمتنزهات والمناطق العامة من مرضى، بل على العكس تشكو من العجز عن توفير الخدمات النفسية لكل من يحتاجها من المرضى في بيوتهم ناهيك عن الشوارع، وبالتالي يكون المخرج الوحيد هو إنشاء مراكز ومصحات جديدة ذات سعة استيعابية أكبر للتعامل مع هذه الظاهرة، وإلا فإنه سيتم جمعهم اليوم وإطلاقهم غداً نسبة لعدم توفر أسرة لتنويمهم بالمصحات، لذا يتطلب الحل اتخاذ إجراءات حقيقية وفاعلة بدون اتباع سياسة إطفاء الحرائق والمعالجات المؤقتة.
صحيفة الصحافة
الخرطوم: تهاني عثمان