جعفر عباس

للبريطانيين فقط (1)

للبريطانيين فقط (1)
[/CENTER] من الحقائق الثابتة تاريخياً أنني ما ذهبت إلى بريطانيا للعمل في بي بي سي، طمعاً في عمل أو مال أو بنين، بل فقط لتعزيز الروابط «التاريخية» بين العرب وبريطانيا، وبالتالي رأيت أنه من واجبي أن أضع خبراتي ومعارفي الغزيرة تحت تصرف بريطانيا، والشعب البريطاني «الشقيق». وبالطبع فإن دوري سيقتصر على إسداء النصح للبريطانيين لأنني لا أملك صلاحيات «تنفيذية» تمكنني من وضع نصائحي موضع التنفيذ، لذا فإنني سأقوم بتحديد وتشخيص العلل التي تعاني منها بريطانيا، بل وتحديد الدواء الذي يتألف من وصفات عربية مجربة ذات مفعول أكيد. (وعلى القارئ الذي وصل الى هذه النقطة ان يحترم نفسه ويتوقف عن القراءة، لأن الأمر يخص البريطانيين، ولكن لو كنت تعتزم ترجمة المقال إلى الإنجليزية وتوزيعه على من حولك من بريطانيين فواصل القراءة).
أكبر علة تعاني منها بريطانيا اسمها «التخطيط». فالبريطانيون لا يفعلون شيئاً إلا في ضوء خطة معينة: يخططون للإنجاب، والتسوق، والتصنيع، والإجازات، والحرب، والسلام، ولهذا فإنهم يصابون بتساقط الشعر، والأرق، وسرطان الثدي، وهشاشة العظام… وعلاج هذه العلة بسيط، ويتمثل في أن يقوم البريطانيون بالإقدام على أي عمل وكل عمل من دون تفكير مسبق، كما نفعل نحن في العالم العربي: نحن، مثلاً إذا أعجبنا بفكرة مشروع معين فإننا إما أن نبدأ بتنفيذه على الفور من دون تفكير في العواقب والنتائج، وبعدها «يحصل ما يحصل»، أو نصرف النظر عنه إلى أن تثبت جدواه في أحد البلدان الموبوءة بداء التخطيط، وتكون كلفته وقتها قد صارت مضروبة في عشرة (غير لوازم السمسرة والعمولات)، ويفسر هذا لغز طول العمر وندرة «الصلع» في العالم العربي. أدمغتنا وأعصابنا لا تعاني من الإرهاق لأنها لا تعمل إلاّ بعُشر طاقتها، لذا فإننا نجلس في المقاهي ونقهقه في الفاضي والمليان مما يجعل أعداءنا في حالة قلق دائم لأنهم لا يفهمون سر «سعادتنا» الدائمة… ويرددون في اجتماعاتهم: لابد ان هؤلاء العرب توصلوا الى حلول ماكرة وناجزة لخلافاتهم معنا، ومع بعضهم البعض، وصاروا واثقين من النصر في ما يسمونه معركتهم المصيرية، ولهذا فهم «منعنشون ومفرفشون» على الدوام. وما يجعل داء «التخطيط» هذا شديد الفتك، هو أن البريطانيين يعتبرون «المواعيد» أمراً مقدساً، فالعمل يجب أن يبدأ في ساعة معينة، وعلى الموظفين أن يكونوا في مواقع العمل «بالدقيقة والثانية»، والمرأة الحامل يجب أن تلد ؟ بالكتير – بعد تسعة أشهر وأسبوع… يقف الواحد منهم في انتظار الحافلة، وعندما تجيء لا يركبها لأنه جاء قبل الموعد بدقيقتين، ولأنهم مهووسون بالمواعيد فإنهم في حالة هرولة مستمرة، وكل واحد منهم يكلم نفسه… كانوا يفعلون ذلك حتى في عصر ما قبل الهاتف الجوال، أما نحن فأمة هادئة، ومزاجها رائق، يتوجه الواحد منّا إلى عمله في الموعد المحدد، فإذا «اشتنشق» وهو في طريقه إلى العمل رائحة «شاورما» – مثلاً ؟ فإنه يغير اتجاهه ويتناول الشاورما، ثم يغسلها بكوب شاي أسود، ولا بأس ببعض الشيشة أو النارجيلة للهضم، وبعد ذلك يذهب إلى مكتبه… وفي الممر المؤدي إلى المكتب يجد مجموعة من الزملاء الذين لا تسمح لهم ضمائرهم بتحليل نتائج مباريات دوري كرة القدم داخل المكاتب، فينضم إليهم لأن «الأصول» تقتضي عدم تجاهل الزملاء، وبعد أن يصل ذلك التحليل الرياضي إلى نقاط الخلاف المعهودة، (الحكم رديء ومرتشٍ والهدف كان من تسلل واضح)، يتوجه الجميع إلى مكتب المدير ليتولى التحكيم والفصل بينهم لأنه صاحب الكلمة الأخيرة حتى في النقد الرياضي، مما يدل على أننا قوم منضبطون، ونحترم التراتبية والسلطة في جميع أشكالها ومستوياتها.

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]