يا تجار التحاشد.. هذه الشوارع عاقرة!
في مصر، لم يكن الدستور المعروض الآن للاستفتاء أو غيره في أجندة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، بل كان الخلاف قديمًا على مادتين في الدستور القديم، الأولى تتناول مدة الرئاسة والثانية تخص شروط الترشح. فلماذا تحوّل دستور مصر إلى المعركة الوحيدة على ساحاتها؟ ولماذا يخرج الرئيس المصري الجديد كل يوم بإعلان دستوري لا داعي له، أهي سياسة للفت الانتباه عن الأشياء الضرورية، أم مداراة ما يفقده المصريون في اقتصادهم وقيمتهم الحقيقية كل صباح؟ أم ضرورة مخبأة. ولماذا يُمرر الدّستور بغالبية بسيطة وهو أمر جلل؟ وكيف منح الرئيس ذاته سلطة اختيار وتسمية من يضع الدستور البديل لو رفض الدستور في الاستفتاء! ومن يراقب أداء الرئيس (المحصّن) ومن يرسم سياسات الدولة! وهل هذا ما ثار المصريون من أجله واقتلعوا نظام الرئيس السّابق مبارك! وهل يكفي الزج باسم (التبرير) حماية الثورة لتبرير أية قرار!
قد يقول أحدهم ألم يحقق المصريون ما خرجوا من أجله، فما الذي أخرجهم من جديد؟ وهل ينسى الحاكم الجديد ما خرج المصريون لأجله، ويجبرهم على الخروج، في الحقيقة إن الحكام الجدد من الإسلاميين (سلفيين وإخوان) أذكى، من ذلك ولكن ما حدث، أنهم طمعوا في ملء كل الفراغات!
ما حدث هو أن الارتباك في مصر كان استثنائيًا، وعليه تعامل الإسلاميون مع الأحداث على أنّها تمثّل الفرصة الوحيدة للتكويش على كل شيء، والتمدد لملء كل الفراغات، وتحقيق الانفراد التام، والحكم بالتنفيذ وبتشريع الدّستور، فتمادوا في اللعب بالمصالح والشعبية، حتى لو أدّى بهم ذلك للوقوع في التناقضات، فلعبوا الدّور الخارجي كوسيط لإسرائيل لدى غزة، ومارسوا محاباة الغرب، وفي الوقت نفسه قاموا برعاية إعلانات الجهاد ورعاية الانتفاضات والتجارة بالترويج لكراهية الغرب، أرادوا أن يكونوا هم أبطال المع وأبطال الضد، يريدون المصالحات الخارجية والقرض الدولي، والرضا الجالب للمصالح والسخط الجالب للشعبية، يتقاسم السلفيون والإخوان الأدوار، أحدهما يخلق الفراغ والآخر يتمدد فيه، ولكن تضيع في ثنايا المزايدات القضايا الحقيقية، ولم يوجد من يقف أمام شيء من الممارسات.
ولا ضير هنا أن نتذكر، خيارًا ذاب، ففي فترة ما قبل تمكّن التيارات الجديدة من الوصول إلى الحكم، كان الترويج للخيار الإسلامي مقرونًا بالنموذج التركي وبالدعوة إليه، ليس لانفتاحه وواقعيته فقط ولكن لوجود الضابط العسكري الذي يحمي مدنية الدولة، ويحرسها، وليس مُحيرا أن يكون هذا الضابط هو أوّل ما انقض عليه الرئيس مرسي، على طريقة الإعلانات الدستورية، إذ أقال المشير طنطاوي والفريق سامي عنان، ذات مرة. فلم يعد هناك حينها من يستطيع الوقوف أمام الدكتور مرسي إلا القضاء، الذي طاله السوط هو الآخر بعد حين، لذلك برز خيار الشوارع من جديد، فهل تجدي!
يقول الغاضبون الجدد إن التغيير لا يكون إلا بثورة أخرى، وللأسف، لازال تعريف الثورة هو التواجد في الميادين، والاحتشاد للتباهي والمكاثرة، وربما يتواتر الأمر إلى أن تتحول مصر إلى لبنان جديدة، تنقسم إلى تيارات معلبة بالرفض والغضب، ويستتب تحويل دولة المؤسسات إلى دولة جماعة واحدة، ويستمر الصراع، ولن يحله حتى الانتخاب، ويردد المثقفون في مصر هتلر كان منتخبًا!
لا يمكن تصنيف انقسام الشارع المصري اليوم، بأنه من صنف الانقسامات التي تنتجها الثورات عادة بين المزرعة والمصنع، أو بين الطبقات العليا والدنيا في الخلاف حول تدعيم الديمقراطية الليبرالية، ولا تخاشنا بين الرجعية والحداثية، بل هو انقسام مَرَضي بين إرادة سلطوية تريد ضبط كل شيء تحت سلطان واحد، وإرادة أخرى لا تريد تسليم البلد لجماعة واحدة، ولكنها -للأسف لا تعلم ماذا تريد.
لكن هل يمثّل هؤلاء كل مصر؟ يقول المراقبون لا، فالمتقاتلون اليوم على الدستور وعلى الإعلانات الدستورية والقرارات الرئاسية، هم يمثلون بالكاد النصف الذي انتخب الدكتور محمد مرسي، أما القسم الآخر الذي انتخب الفريق شفيق، فهو يتردد مليا قبل أن يدخل في المعتركات، فقد مورِس ضده كل الإقصاء ليصبح مذمومًا مدحورًا منزوع الوطنية، بينما يجلس آخرون على دكّة الكنبة ينتظرون مسيحا مخلّصا أو مهديا يأتي في آخر زمان الإخوان، أو أحزابا تليق بالطموحات تستوعبهم بفاعلية حقيقية!
ما يحدث هو لون جديد من ألوان عجز العربي عن الخروج من دائرة تقديس الذات، وإدمانه تخطئة الآخر والضيق برأيه، وقد أفاق المصريون من (خطوة/خطيئة) الثورة الأولى واكتشفوا أنه قد تم استخدامها كستار سياسي، حتى أضحت كثيرة الثقوب والعوار، لم يعد ممكنا أن تستر شيئاً، ولكن حلهم الوحيد تمثّل أمامهم في أن يثوروا (غضبا) لتدور الدائرة، بلا هدى، أملاً في أن يولَد في يوم ما خيارٌ آخر.
اخر الكلام، أنه سيقضي الجميع وقتا طويلاً في المنازعات، على السلطة، ويسمون كل ذلك ثورة، إلى أن يصلوا إلى حقيقة سهلة ومكررة مفادها ما لم يتغير التفكير المجتمعي، فإنّ حالة الاستبداد، تعيد ولادة نفسها، لأن الاستبداد لم يكن يومًا في يد الحاكم، بل كان أزلاً في ثقافة المحكوم، وثقافة الأزمة تجعل أصحابها، فريسة سهلة، في تجار الدين والأيديولوجيا الأذكياء.
[/JUSTIFY]عمر البشير الترابي