بهاء والطيران والتعريب (1)
حتى منتصف الثمانينيات كان صديقي بهاء الدين م. لا يسافر على متن طائرة يقودها شخص عربي.. وبعدها لم يعد يسافر مطلقا بالجو! بهاء من الجيل الذي فتح عيونه على الدنيا في ظل الاستعمار البريطاني، ونشأ في زمن كان فيه البريطانيون يسيرون كل شيء في معظم الدول العربية، فحتى بعد نهاية الحقبة الاستعمارية، كانت جميع شركات الطيران العربية تقريبا تستعين بقباطنة بريطانيين.. وفي سبعينيات القرن الماضي بدأ توطين وتعريب مهنة قيادة الطائرات، ولم يكن ذلك يروق لبهاء.. أي أنه كان يرى انه من الخطأ السماح للسودانيين بقيادة الطائرات المدنية السودانية، وفي ذات يوم ركب طائرة سودانية من لندن الى الخرطوم وكان قد استفسر عن اسم القبطان فقالوا له إنه مستر فلان الخواجة.. ولكن ما ان أقلعت الطائرة حتى حيا الكابتن المسافرين: كابتن محمود…. يحييكم ويرحب بكم.. ولكن صوت الكابتن ضاع وسط صيحات بهاء المرتجفة: يا أولاد ال… أعيدوا الطائرة الى الأرض.. أنزلوني.. هذه مؤامرة.. ونجح الركاب في تهدئته، من منطلق أن الأعمار بيد الله، وليس بيد كابتن محمود أو دوغلاس! فأغمض عينيه وطفق يردد الشهادتين، ويقرأ «يس».. ثم ينهار مجددا عندما يتذكر عياله: الله يحفظكم.. أصبحتم يتامى وعودكم طري أخضر.. وبعد قليل رأى بهاء كابتن محمود ذاك يسير في ممر الطائرة محييا الركاب فانتفض واقفا: شوفوا الاستهتار.. سايب الطيارة تمشي على كيفها، وجاي يتمخطر وسطنا.. ارجع الكابينة يا صعلوك يا مستهتر.. وكان الكابتن قد عرف بأمر بهاء، فتوجه نحوه، وقال له ان الطائرة تحت سيطرة «الأوتو بايلوت» أي القبطان/النظام الآلي، مما جعل بهاء يروح في غيبوبة لم يفق منها إلا في نهاية الرحلة عندما «أنعشوه» وتأكد له انه «حي»!
في مرة ثانية كان بهاء قد شارك في مؤتمر في بيروت ورتب أموره مع الجهة المنظمة للمؤتمر، على العودة الى الخرطوم بالتوجه الى القاهرة على طيران الشرق الأوسط الذي كانت جميع طواقمه أوروبية، على أن يسافر من القاهرة الى الخرطوم على الخطوط البريطانية.. وحلقت الطائرة ببهاء من مطار بيروت.. وجاءه صوت من المايكروفون الداخلي: كابتن عويس يحييكم.. صدرت عن بهاء صرخة تحنن قلب الكافر، وبدأ يبكي ويهذي.. حسب المسكين ان عويس هذا اختطف الطائرة.. ولكن بعض الركاب «طمأنوه» بأن عويس هو قائد الطائرة فقال لهم: وإزاي يسمح لنفسه بأن يقود طائرة؟ فجاءه الرد: يا بجاحتك يا أخي.. أُمَّال هنجيب استرالي يقود طيارة مصرية.. هنا تحول عويل بهاء الى هستيريا: البقاء لله.. الدوام لله.. وصار يسب ابليس تارة وعويس تارة أخرى.. بهاء هذا قرر أداء العمرة، فسافر من الخرطوم الى أثينا بالطيران الهولندي (كيه إل إم)، وسافر من أثينا الى جدة بالخطوط الفرنسية.. وبعد توطين وظائف الطيارين في كل الدول العربية امتنع بهاء عن السفر جوا ولم يركب طائرة طوال الـ25 سنة الأخيرة.. قلت له ان سجل السلامة لشركات الطيران العربية ممتاز ولكنه يقول بلا حياء: لا شيء في العالم العربي وإفريقيا يستحق تقدير ممتاز