أحزان على طاولة التشريح
تطرقنا بالأمس للفرح الغامر الذي اجتاح الجنوب جراء إعلان قيام دولة الجنوب وحاولنا أن نسبر غور ذلك الفرح حتى نأخذ منه العبرة وحتى لا يتكرر سيناريو الانقسام مرة أخرى. وذهبنا إلى القول إن الخلل يكمن في عظْم الدولة السودانية التي كانت . فهو عظم مسوِّس بدليل أنه فشل في لم لحمة الجنوب، وهذا العظم كان يقف عليه السياسيون من الشمال وقليل من الجنوبيين، فبنية الدولة السودانية كانت بنية مهترئة فكان الانشطار. ولكي تكتمل الصورة (يالطاهر حسن التوم) لابد من محاولة تشريح حزن الشماليين لانفصال الجنوب. ولكي نكون أكثر دقة يجب أن لا ننسى الطيب مصطفى ومن لف لفه ونقول حزن بعض الشماليين للانشطار الذي حدث. وبالمناسبة هناك جنوبيون قد أحزنهم الانفصال ولكننا نتكلم في الحالتين عن الأغلبية أو على الأقل عن الصوت الطاغي، هل الحزن الشمالي حزن رومانسي على تاريخ وجداني تشكل من( منقو قل لا عاش من يفصلنا) وخريطة السودان المخروطية الجميلة ذات المليون ميل مربع؟ هذا لا يعطي كل الحقيقة. هل كان حزنا على موارد الجنوب من زيت وماء وأرض بكر واعدة؟ هذا لا يعطي تفسيرا مقنعا . هل هو حزن على فكرة الجسر التي كان يمثلها السودان بين العالمين العربي والأفريقي؟ هل هو خوف من مخاطر قد تنبع من دولة الجنوب المستقلة؟ هل هو حزن لفراق أحباب تجمعنا بهم علاقات خاصة ؟ لا أظن ذلك، فالعلاقات الانسانية الخاصة بين الشماليين والجنوبيين هي أضعف حلقات العلاقة بين الشمال والجنوب. الحروبات الأهلية الطويلة جعلت الشمالي ينظر للجنوبي كمشروع متمرد والجنوبي ينظر للشمالي كمشروع متسلط وجلاد ومستعمر. هذا لا ينفي وجود علاقة طيبة بين أفندية الشقين . يجب أن نعترف بأن لهذه العلاقة المأزومة بعداً عنصرياً، فالعنصرية وتقسيماتها لم تبارح الذهنية السودانية وإن كانت الدولة محايدة وبالدستور في هذا الأمر فالحقوق والمساواة أمام القانون والمواطنة الكاملة كلها مقرة في الدستور ولكن المجتمع السوداني ما زال متخلفا عن الدولة في (الحتة دي) ولكن وبمرور الزمن وزيادة جرعات الوعي كانت حتما سوف تنقرض وتصبح تاريخا، وهناك شواهد كثيرة تدل على ذلك. علينا أن نعترف نحن الشماليين بعجزنا في التقارب مع الجنوبيين كأفراد، وأسطع دليل على ذلك أن العاصمة القومية التي أمها السودانيون من كل أطراف السودان استطاعت أن تستوعب كل القادمين إليها بثقافاتهم المتباينة إلا الجنوبيين فهم ظلوا في كانتوات منفصلة عن الآخرين ولم نقترب منهم على عكس الجنوبيين الذين قطنوا الأحياء المخططة الذين اندمجوا في ثقافة العاصمة . كان يمكن للدولة أن تمارس التمييز الإيجابي لإزالة هذه الجفوة بين الجنوبيين والشماليين ولكنها لم تفعل. كان يمكن للحركة السياسية أن تقوم بدور في هذا الأمر ولكنها عجزت، وهنا لابد من أن نستثني تجربة الحركة الشعبية والتي كان يمكن أن تنجح نجاحا كبيرا لكنها انحرفت مع مقاصد زعمائها، وهذه قصة قد نعود إليها فيما بعد.
خلاصة قولنا هنا إننا كشماليين ينبغي أن نعترف أننا تسببنا في هذا الانفصال لأننا فشلنا في إقامة علاقات إنسانية مع إخوتنا الجنوبيين وحبسنا أنفسنا معهم في الإطار السياسي على أحسن الفروض، فإن كان ثمة حزن فليكن على هذا الفشل وعلينا الآن أن نسعى لمعالجة هذا الأمر حتى لا يتكرر هذا الحزن الذي قد ـ أكرر قد ـ يكون نبيلا..
حاطب ليل- السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]