رأي ومقالات

حقوق الإنسان الإسلامية وجدل الحريات


[JUSTIFY]توجه العالم الإسلامي منذ سنوات نحو تقنين مواثيق حقوق الإنسان الإسلامية. وظهر الاهتمام بفكرة صياغة بيانات مقننة ذات طابع إسلامي منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد كان أبرزها ما أوصت به بشكل رسمي منظمة المؤتمر الإسلامي، وتم إقرار الوثيقة في مؤتمر وزراء خارجية دول أعضاء المنظمة في القاهرة في عام 1990م حيث تمت المصادقة النهائية عليها. وهذا التوجه تمخض عنه قرار منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة عام 2005م والذي قضى بإنشاء لجنة دائمة مستقلة لحقوق الإنسان تابعة للمنظمة للتباحث حول مشروع منظمة حقوق الإنسان الإسلامية، وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به المنظمة في المشهد الإسلامي الراهن. إلا أنّ أكبر معضلة تواجه المنظمة ككيان موجود فعلياً في العالم الإسلامي وكروح معبّرة عن وجدان وخصوصية القوانين الإسلامية، هو جدل الحريات وما يتبعها من مواقف مؤيدة ومعارضة في العالم الإسلامي.

وبالرغم من أنّ مسألة حقوق الإنسان ترتبط بالإنسانية جمعاء دون التمييز على أساس الدين أو العِرق أو الإثنية، وبالرغم من أنّ المجتمعات الإسلامية تمارس هذه الحقوق وتطالب بها في حياتها العادية إلّا أنّ المسلمين في نفس الوقت يعدونها مسألة كمالية. وهنا تبرز أهمية التثقيف أولاً بمسألة الحقوق واحترامها قبل تطبيقها.

ومن الغالبية التي تعدها مسألة كمالية برز نفرٌ من المهمومين بقضايا حقوق الإنسان يصرّون على ضرورة تأصيلها إسلامياً. ولم ينسَ هؤلاء أنّ الإسلام بموروثه الحقوقي والثقافي والتربوي يرعى في كنفه مسألة حقوق الإنسان بنفس القدر الذي لعب فيه الإسلام دور المسؤول الحضاري عن حقوق الأمة الإسلامية. إذن المشكلة ليست في نصوص هذه الحقوق التي يُجمع عليها الناس بالعقل قبل الإيمان، وإنما المشكلة في المجتمعات الإسلامية التي يواجهها تحدٍ يتمثّل في مدى جدارتها ومقدرتها على إبراز هذه الحقوق إسلامياً.
ارتكزت وثيقة الحقوق الإسلامية المجازة على عدة عوامل أساسية وهي العمل على برهنة احتواء الإسلام على قيم ومبادئ ونصوص وتشريعات تسمو بحقوق الإنسان وتدعّم من نيل هذه الحقوق وحمايتها. وبروز الإسلام بهذا الوجه الحقوقي الإنساني ليس بالنسبة للمسلمين فحسب، وإنما كشريك حضاري عالمي يتوجب عدم انغلاقه على نفسه وإنما انفتاحه على العالم والتواصل مع بقية الحضارات الأخرى. وهذه الجزئية يمثلها همّ حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي التي شغلت أمثال المفكّر الإسلامي محمد عابد الجابري والذي بيّنها فيما كتبه: «إنّ مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام يضبطه حقوق الناس على بعضهم في الإسلام وجلب كل مصلحة مندوبة ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة، ويجمع ذلك قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(المائدة: الآية 2). ويؤسس هذا الحق العدل الواجب ومبدأ تكريم الإنسان».

ويصنف الجابري حقوق الإنسان في الإسلام إلى: «حقوق عامة وهي الحق في الحياة والتمتع بها، وحرية الاعتقاد والمعرفة والاختلاف والشورى والمساواة، وحقوق خاصة هي البر والعفو للمستضعفين وحقوق المرأة».

لا يكفي أن تكون الفكرة فريدة لكي يُكتب لها النجاح ولكن هناك معوقات لا بد من تذليلها أولاً وهي استيعاب مسألة الحقوق من داخل المجتمعات الإسلامية، وذلك بتجسير الهوة بين التقاليد الموروثة عن المجتمع ونسبتها إلى الإسلام مما يضع حاجزاً أمام استيعاب قضية حقوق الإنسان وتطورها مع العصر. وهنا لا بد من الإيمان بما تتطلبه الحداثة والدفاع عن الحريات كمطلب إنساني إسلامي.

وهناك معوّق آخر يرتبط بموقف الدول الغربية وتعاملها مع العالم العربي والإسلامي، حيث كان نصيبه من هذا التعامل ليس خيراً كله ولا شرّاً صرفاً، وقد كان الغرب في مواقف عديدة يكيل بمكيالين مما تم تفسيره على أنّه مواجهة بين الحقوق الإسلامية والحقوق الدولية.

فلا يجب مضاهاة وتناظر الحقوق في العالم الإسلامي بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان كي لا يدخل الجدل في تفاضل وتحديد موقف مع أو ضد. ويجيء هذا الرأي مدعمّاً بما جاء في بيان منظمة المؤتمر الإسلامي الذي عد في ديباجته: «أن هذا البيان يأتي مساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان، التي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهدف إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية».

ولعل من ضمن العوامل التي أقعدت بإزالة اللبس عن مشروع حقوق الإنسان الإسلامية هو التقاعس عن تقديم صياغات قانونية تترجم هذه الحقوق بشكل حديث ومواكب للعصر وتحددها بدقة. وقد فطن الفكر الغربي لمسألة تقنين الحقوق وتحديدها بشكل دقيق، لذا نجد أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق الدولية تم تأسيس إلزامها القانوني بناءً على أساس قوتها المعنوية والأخلاقية.

إنّ الهيئة الدائمة والمستقلة لحقوق الإنسان المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي سعيها أن تكون جزءاً من الحلول لقضايا حقوق الإنسان لا إحدى المشكلات، أعلنت المنظمة أنها تنأى بنفسها عن الصفة الإلزامية وتركز على الصفة الاستشارية في المقابل.

فبينما تثير الصفة الإلزامية مخاوف وقد تفرض قيوداً على عمل الهيئة، فإنّ الصفة الاستشارية سوف تمنح الهيئة مساحة أوسع للعمل ومراقبة وتقييم الأوضاع الحقوقية في الدول الأعضاء فضلاً عن بذل مساحة أرحب للتعبير عن آرائها. كما أوضحت أنّ النظام الأساسي للهيئة لا يفرض قيوداً على إمكانية تواصلها مع منظمات المجتمع المدني في الدول الأعضاء وغيرها من الهيئات والمؤسسات، بغية الحصول على الحقائق اللازمة في سير تقييمها لأوضاع تلك البلدان في مجال حقوق الإنسان.

ولتمكين الهيئة من الانتقال من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التقنين، كان لا بد من بلورة هذه الحقوق وتقنينها على صورة مواد وبنود واضحة ومحددة، يمكن الرجوع والاحتكام إليها، والتقيد والالتزام بها. وذلك مع التأكيد على خصوصية حقوق الإنسان الإسلامية، وحرص المسلمين على التمسك بالهوية الإسلامية والانتماء الفكري والمرجعي للإسلام حتى يتم التعامل مع ما يُعرف بالغزو الثقافي، والاختراق القيمي والأخلاقي.

وبناء على هذه الأسس وغيرها جاءت هذه الخطوة نحو تقنين حقوق الإنسان في بيانات وإعلانات إسلامية، استطاعت لفت أنظار العالم إلى هذه الحقوق، وعملت على التركيز على هويتها مما دفع نحو العناية بها، والدفاع عنها، وتثقيف المجتمع عليها، لأنها تمثل المدخل الصحيح من أجل إقامة مجتمع إسلامي يحترم حقوق الإنسان ويحافظ عليها.

وأخيراً فلا بد من الانطلاق من حيث ابتدأ بذل مفهوم حقوق الإنسان إلى الناس كافة حتى يلامس همومهم الاجتماعية، وعدم حصره في المفهوم النخبوي المثالي البعيد عن الحياة الواقعية. أما عن إشاعة السلام فيما يتعلق بالعلاقة مع الحقوق الدولية فيكون بتحويل مشروع الحقوق الإسلامية من علاقة صراع ديني وجدل حول الحريات إلى علاقة اعتبارية منصوص عليها في التشريع الإنساني، لا تنتهك خصوصية دين أو فكر ولا تترفع على القيم الإنسانية التي يجب مراعاتها من الكافة.

صحيفة الشرق
منى عبد الفتاح[/JUSTIFY]