جعفر عباس

الجوال للاستهبال


الجوال للاستهبال
كنت أعجب كثيرا لأن بيننا من يسيء الظن بكل منتجات ومخترعات ما يسمى «العصر الحديث»، وكان مصدر عجبي أننا صرنا منذ أكثر من عشرة قرون أمة مستهلكة لإنتاج وإبداع الآخرين، وأن دورنا اقتصر على الرفض وسوء الظن بكل ما يأتينا من الخارج، ولكن القفزات العلمية المتسارعة في السنوات الأخيرة جعلتني أيضا أنضم إلى من يسيئون الظن بمعظم منتجات العصر، الخضراوات والفواكه المعدلة وراثيا، وفرن المايكروويف الذي يعد خلال دقائق وجبة لا طعم لها ولا رائحة، وغيرها من المخترعات، وكنت من أوائل من رفضوا الهاتف الجوال، رغم أنني كنت ضمن من بين اول عشرين شخصا من المقيمين في الحظيرة العربية الكبرى يتسنى لهم امتلاك ذلك الهاتف الفلتة، ولم يكن مرد ذلك فقط أنني ارستقراطي بالميلاد، بل أيضا لكوني كنت أعمل في شركة الاتصالات في قطر وهي أول من ادخل خدمة الهاتف الجوال في آسيا وافريقيا، ولم يتم منحي ذلك الهاتف لـ«سواد عيوني»، بل كي أصبح فأر مختبرات، فقد كانت تأتيني مكالمات من الفنيين المكلفين بتركيب شبكة الهاتف الجوال ليسألوني عن موقعي ومدى وضوح المكالمة، ثم صار عيالي يستخدمون تلك الأداة الفريدة للاستعراض بين زملائهم: ألو حمودي.. تصدق أنا بكلمك من سيارة بابا؟ والله العظيم حقيقة.. أبوي عنده هاتف ممكن تتكلم منه وأنت ماشي في أي مكان! ثم دخلت أم الجعافر على الخط: وين أنت؟ ووين رايح؟ شنو الصوت النسائي اللي جنبك؟ يا بنت الناس دي البي بي سي!! وهكذا أعدت الهاتف إلى الشركة ولم أستخدمه إلا بعد أن صار عيال رياض الأطفال يعايرونني بأنني لا أملك (موبايل)، وحسبت بادئ الأمر انني قادر على حصر اتصالاتي بالهاتف الجوال، ولم أخبر إلا نحو ثلاثة اشخاص برقم هاتفي، وحذرتهم من إبلاغ اي شخص بأنني أمتلك هاتفا جوالا، ولكن ما حدث ان كل واحد من اولئك الثلاثة أبلغ ثلاثة آخرين برقم هاتفي، وطلبوا منهم عدم إبلاغ أي شخص بالرقم و«إياك تقول لأبوالجعافر إني أعطيتك الرقم»، وهكذا وخلال شهر واحد كانت حتى السي آي إيه تعرف رقم هاتفي الجوال،.. وبعد الانتشار الوبائي لهذا الهاتف قال عيالي إنهم ليسوا «أقل» من سعود وصلوح وفطوم وزنوبة «ولازم يكون عندنا موبايل»، وكان لهم ما أرادوا، وصار الواحد منهم يبعث لي المسجات (الرسائل) وهو جالس في غرفة تبعد عني مترين: الضيف البايخ طلع عشان تودينا بيرجر كنج؟
والموبايل يحتاج الى سماعة، ثم تدهورت حالته الصحية وصار محتاجا إلى كاميرا، ونغمات وصور يتم إنزالها من الانترنت أو شراؤها من جهات معينة، ولا بد من مجاراة الموضة وتغيير فستان الموبايل بين الحين والآخر، فتجد عند العديدين أغلفة لهواتفهم الجوالة. وكل ذلك ترف لا طائل من ورائه، ولكن ماذا تقول في زمان اختفى فيه الخط الفاصل بين الترف والضرورة؟ كل ذلك أمره سهل ففي الطريق اضافة جديدة إلى الموبايل تليق بعصر العولمة: فقد أنتجت شركة سيميدا الرومانية برنامجا للهاتف الجوال يزودك بأكاذيب تجعلك تفلت من المساءلة في العمل أو البيت.. يرن الهاتف وترى على الشاشة رقم مديرك فتضغط على زر يصدر أصوات أبواق وهدير سيارات فتقول له إن هناك زحمة مرورية بسبب مرور موكب رئيس جمهورية روريتانيا.. أو تضغط على زر يصدر صوت آلة الحفر المستخدمة في عيادات الأسنان، وتقول للمدير انك تخضع لعملية قتل عصب، وإذا كان المتصل زوجتك وأنت في مكان مريب تستطيع ان تضغط على زر يوحي بأنك في جو عمل: تلفونات ترن وأصوات طباعة على الكمبيوتر.. وهكذا فإن أداة اتصال ستصبح أداة انفصال.. عن الواقع والالتزامات والحقيقة!

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]