الطاهر ساتي

يا ساتر …(دي طباعة عملة ولا تخصيب يورانيوم ؟) ..!!

يا ساتر …(دي طباعة عملة ولا تخصيب يورانيوم ؟) ..!!
** ومن المواقف الغريبة ذات الملامح الطريفة، دعاني صديق يعمل بإحدى الشركات الناقلة لزيارة موقع سد مروي مع وفد عربي سوداني، فلبيت الدعوة التي أسعدتني كثيرا، بحيث كانت زيارتي الأولى لهذا الموقع، ولم يكن السد آنذاك إلا خرائط هندسية على الورق، وكنت متشوقا لرؤية وتوثيق المكان قبل بناء السد..وصلنا الى هناك، وتجولنا كثيرا، ولم يكن أحدا من الوفد المشترك يعرف هويتي غير صديقي هذا، ولكن حين لمح أحدهم كاميرتي سألني: (انت تابع لي وين؟)، فقلت بمنتهى البراءة: (صحفي وتابع لى ألوان)، فاستلم كاميرتي قائلا: (هنا التصويرممنوع)، فتعجبت ولم أجادله كثيرا، فالتجارب علمتنا بأن الجدال مع هؤلاء قد يؤدي الى مصادرتك أنت شخصيا، ناهيك عن الكاميرا.. وعدنا الى الخرطوم، وأذا بوفد رفيع المستوى – من جماعة الزول الشال كاميرتي – ينتظرني في مطار الخرطوم، وسحبوني من وسط الوفد بهدوء مغلف بابتساماتهم وترحيبهم وأحضانهم، حيث الكل ظن بأنهم أهلي أو أصدقائي وجاءوا لاستقبالي، بل حتى أنا حسبتهم كذلك، ولكن فيما بعد (الفيهم اتعرفت)..وذهبوا بي الى ناحية جنوب الخرطوم، فأحسنت الظن وقلت لنفسي: (والله ما قصروا، بالتأكيد ح يوصلوني الكلاكلة)، حيث أقطن ..ولكنهم خيبوا ظني عندما غيروا اتجاه عربتهم الى حيث وسط الخرطوم، فقلت بذات الظن الحسن: (هييع، الجماعة ديل قطع شك عاوزين يفتحوا لي دكان في السوق العربي) ..ولكنهم خيبوا ظني للمرة الثانية، حيث وجدنا أنفسنا تحت شجرة نيمة أمام مقر الصحيفة بتقاطع (سان جيميس)، وترجل أحدهم ودخل مقر الصحيفة بعد أن نصحهم وحذرني قائلا (اقيفوا هنا دقائق وراجع ليكم، الصحفي ده ما ينزل)، فاستوعبوا النصح واستوعبت التحذير..ثم عاد بعد ربع ساعة تقريبا، ليخاطبني: (خلاص انزل واقطع وشك، وتاني ما نشوفك في مروي)..غادرتهم والدهشة تملأ كل جوارحي، ودخلت الى الاخ الأستاذ أحمد عبد الوهاب، وكان مدير تحريرنا آنذاك، وسألته: (الحاصل شنو يا ابو مروان، الناس ديل مالهم معاي ؟)، ولم أجد عنده من الرد غير تحذير من شاكلة: (يا زول هوووي، الجماعة ديل قالوا لي ما تجيبو سيرة السد ده نهائي في الجريدة، لا بالخير ولا بالشر، وقالوا انت بالذات ما تكتب حرف في الموضوع ده)، ثم ختم التحذير مداعبا: (غايتو ده تحذيرهم وأنا وريتك، يمكن عاوزين يبنوا بالسر، انت فاضحهم ليه ؟)..وضحكنا والتزمنا بالتحذير مكرهين، وبلسان حال قائل: (غايتو سد يبنوا بالسر ده ما سمعنا بيهو قبل كدة) ..!!
** تذكرت كل تلك الوقائع أثناء قراءتي لوقائع قصة طباعة العملة السودانية لأول مرة بالبلاد، كما رواها الدكتور عبد الرحيم حمدي في حواره مع زميلنا فتحي العرضي..وقائعها غريبة كما تلك، بملامحها بعض الطرافة، حيث يقول: كنا نجتمع سرا في منزل آمن، وكان الرئيس ونائبه والدكتور الترابي يحضرون الاجتماع ولكن مشيا على الأقدام بعد أن يتركوا سياراتهم بعيدا عن مكان الاجتماع، ويتسللون الى المنزل بهدوء، وأخفينا أمر اجتماعتنا حتى على الأجهزة الشرطية، ولكن عندما قلت فيما بعد لمدير الشرطة (نحن ح نغير العملة بعد أيام)، قالي لي: (آي عندي معلومات عن وصول كونتينر مليء بالعملة الى بورتسودان)..وجلبنا الكونتينر بقطر خاص من بورتسودان، عكس نظام السكة حديد وجدول قطاراتها، وفرغناه في إحدى مدارس المجلس الافريقي بعد أن كسرنا الجدار ليلا والجيران نيام، وبنيناه في نفس الليلة ولم يشعر الجيران بعلميتي الكسر والبناء.. وبعد ذلك وزعنا المحتويات – العملة – بسرية تامة في الولايات بواسطة سلاح الطيران.. وهكذا فاجأنا الجميع بطباعة العملة (الدينار) ..!!
** تلك بعض وقائع قصة طباعة الدينار، حسب حديث حمدي، فالسؤال الذي يطرح نفسه بمنتهى الدهشة: لماذا كل هذه السرية؟، بل لماذا السرية (أصلا) ؟.. ألستم حكومة دولة، وليست عصابة ؟.. فالذي نعرفه بأن المافيا حين تمارس عملية تزوير العملات، تحيط ذاتها وعملياتها بكل تلك السرية، ولكن ما بال حكومة دولة – ذات سيادة ومؤسسات وشعب وحدود وعلم وسلام جمهوري – تمارس كل تلك التدابير السرية في طباعة عملتها ؟..ليست هناك إجابة منطقية غير (انها عقلية كوادر التنظيم)، وليست (عقلية رجال دولة) .. وتلك عقلية – للأسف لا تثق حتى في ذاتها، ناهيك بأن تثق في (من حولها)، دولا كانت أو شعبا أو حتى مؤسسات حكومتهم وأجهزتها المناط بها تنفيذ تلك المهمة بشفافية وبلا توتر وبلا (يتسللون) ..الحمد لله على أن تلك العقلية على وشك التلاشي، أي أن العملية الجديدة الحالية لم تطبع وتوزع بواسطة آليات من شاكلة (قطر خاص، سلاح الطيران، تسلل ، بيوت آمنة)، وكأن المراد تخصيب اليورانيوم بحيث يكون سلاحا نوويا، وليس طباعة عملة …!!

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]