جعفر عباس

وللسعادة تسعيرة


وللسعادة تسعيرة
ظللت سنوات طويلة أتوهم أني سعيد، وأنني حققت في حياتي أشياء لم أكن أحلم بها خلال مرحلتي الصبا والشباب الباكر، فقد نلت تعليما معقولا، وعملت في وظائف مقنعة معنويا وماديا، ثم اغتربت وتعنطزت وتفلهمت حتى صرت أعاف لحم الدجاج والكمثرى والعنب، وصارت لدي إمكانات تسمح لي بأكل الزلابية ولحس الآيسكريم يوميا، ورزقني الله بالعيال الذين ورثوا عني الأنف الفرعوني واللون «الفاتح» والذكاء (كان الله في عونهم).. ولم يعرف الحسد قط طريقه إلى قلبي، فلا يزعجني أن زميلا لي في الدراسة صار مليونيرا أو شخصية عامة مرموقة.. المهم أنني كنت سعيدا بكل ما عندي وما هو حولي، إلى أن قرأت نتائج دراسة أجراها موقع «ياهو» الشهير على الإنترنت حول السعادة، ومؤداها أن السعادة تشترى بالمال لأن المال يأتي براحة البال.. ولكن أتعرفون ما هو المبلغ الذي حددته الدراسة كي تتحقق السعادة؟ خمسة ملايين دولار أمريكي، واضربها في 3600 كي تعرف قيمتها بطيب الذكر الجنيه السوداني!! يعني أبوالجعافر يحتاج إلى سبعين سنة من الآن يضع فيها كل راتبه تحت المخدة كي يصبح «رُبع» سعيد!
أنا أدرك أن الحديث حول هذا الموضوع استفزازي في بلد يعاني البؤس والاكتئاب الوبائي.. ويعاني أهله التهاب الجيوب البنطلونية والجلبابية، ولكن عندي اقتراح: ما رأيكم في أن نعمل «ختة» أي صندوق قومي بطريقة توتو كورة.. عندنا في السودان ثلاثين مليون مواطن.. ولو أسهم كل مواطن في الصندوق بخمسة آلاف جنيه شهريا، نستطيع أن نجري سحبا نصف سنوي ونضمن بذلك أن مواطنين اثنين يقتربان من السعادة سنويا!! وإذا استمر الصندوق ولم يتعرض للهبر والسفسفة!! سيصبح نحو مائة مواطن سوداني من السعداء خلال نصف القرن المقبل، وهو إنجاز لم يتحقق خلال نصف القرن المنصرم! ادرسوا هذا الاقتراح، وبدوري سأفكر في سبيل لبلوغ السعادة التي تبلغ كلفتها خمسة ملايين دولار: أبلغ عن صدام حسين؟ بعد إيه؟ أبلغ عن بقية رفاقه؟ الأمريكان الملاعين خفضوا التسعيرة إلى مائة ألف دولار للنفر من المطلوبين من أعوان صدام.
نعم، السعادة لا تشترى بالمال، ولكن البؤس والفقر والمرض والجهل والزهج والقرف والإمساك والإسهال والبواسير، كلها تنجم عن عدم وفرة المال، ولكن المصيبة هي أن ابن آدم لا يشبع قط من المال، ومن ثم تجد شخصا عنده الملايين في بنوك سويسرا والبهاما يعاني الأرق لأن صفقة بستين ألفا – مثلا – طارت منه.. وأذكر أنني أصبحت من الأثرياء في أواخر السبعينيات، فعندما قررت الزواج – وكنت وقتها أعمل مدرسا للغة الإنجليزية في الخرطوم بحري الثانوية وأعمل أيضا في التلفزيون التعليمي وأتقاضى راتبين – صرت أدرِّس في كل فصول اتحاد المعلمين المسائية بنين وبنات، وهناك جيل كامل من أبناء وبنات بحري كان من ضحايا مشروع زواجي، المهم بلغت مدخراتي فوق الـ 800 جنيه بقليل وأصبح همي كله المرور أمام البنك يوميا للتأكد من أنه لم يتعرض للإفلاس أو السرقة، وجاء موعد سداد المهر وشراء لوازم الولائم وكسوة العروس، الخ، وأدركت أن «شقا السنين» سيضيع في لحظات.. فكرت لبعض الوقت في صرف النظر عن الزواج باعتبار أن مشروعا بدايته تفليسة، سيؤدي إلى سنوات كبيسة، ولكن ربك ستر، وأوفدتني وزارة التربية في بعثة دراسية إلى لندن بحبحت فيها ماديا، وعدت من هناك وقد قررت الزواج مهما كانت التضحيات وشجعت نفسي بترديد قول الشابي:
مشيناها خطى كتبت علينا ×× ومن كتبت عليه خطى مشاها!
سبحان الله: كدت أنسف – أطرشق مشروع زواجي من الفتاة التي اخترتها بنفسي كي لا يضيع مني 800 جنيها، واليوم قد تضيع تلك الفتاة 800 دولار من حر مالي في يوم واحد فلا أستطيع أن أقول تلت التلاتة كم؟ ليس فقط لأنني ضعيف في الحساب، ولكن لأنني ضعيف البنية نسبياً!!

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]