تحقيقات وتقارير
السودان .. شعبٌ أسمر حِدادُهُ بالأبيض
الحِداد ويقال الإحداد لغة: أن تترك الطِّيب والزينة والكحل والدهن المطيَّب وغير المطيَّب إلا من عُذر، وفي (الجامع الصغير) إلا من وجع.
وكانت فترة الحِداد قديمًا في السودان تمتد لسنة أو تزيد عليها، وكانت هنالك طقوس معيَّنة تتم في تلك الفترة فإذا لم تأتِ المرأة بتلك الطقوس يكون (عيبًا) عليها وتكون مادّة دسمة للونسة خاصَّة في جلسات (شراب الجبنة) بأنها لم تحدَّ كما ينبغي لها! لكن مع تطوُّر الزمن تقلَّصت المدة واندثرت الطقوس.. (الإنتباهة) وقفت على ظاهرة الحِداد في السودان وعلى ارتداء الثياب البيضاء بدلاً من السوداء أُسوة ببقية شعوب العالم.. عادة الحِداد قديمًا كانت لها رموزُها ودلالاتُها حيث تعني المؤازرة والمواساة لأهل المتوفَّى مع مخالفتها للشرع، وكان أهل المتوفَّى وجيرانُهم يقومون بتأجيل كل المناسبات الاجتماعيَّة ذات الطابع الفرايحي مثل الزواج والختان. وكان النساء يرتدين الدمورية بعد صبغها بماء الشاي الأحمر وموية (الترمس)… وأقمشة الحداد أنواع تُلبس حسب صلة القربى للمتوفَّى نذكرها بالترتيب القنجة ثوب يُصنع من القطن الخشن بطريقة بدائية في الغزل والنسيج اليدوي وهي كلمة نوبية دنقلاوية بمعنى (دموّر) وهي موجودة في التركية أيضًا وجمعه قُناج أوقنجات وهذا الثوب يُلبس في الحداد على المتوفى إذا كانت قرابته من الدرجة الأولى ويليه ثوب (الدمورية وزن عشرة) وهو يُلبس حدادًا على المتوفين إذا كانت صلة القرابة من الدرجة الثانية و(الدمورية وزن تسعة) لذوي القربي من الدرجة الثالثة أما ثوب (الساكوبيس) وهو ضرب من القماش خفيف ويلبس لمجاملة أهل المتوفَّى في الحداد، قال الشاعر الهمباتي: يوماً لابس ساكوبيس مِتقيّف.. وينتعل النساء (الشقيّانه) أو (تموت تخلي) وهو حذاء يُصنع من الإطار الداخلي لإطارات السيارات وبعضهن يحرِّمن على أنفسهن انتعال الأحذية، هذا مع مقاطعتهنَّ لكلِّ أنواع الطِّيب والزيوت ويأكلن (الماسخة) وهي كسرة بالماء فقط ليس عليها سُكَّر ولا ملح وفي بعض المناطق يُحفر للنساء حفرة ويجلسنَ عليها طيلة أيام العزاء كناية عن الحزن العميق.
بعد القرض.. أكلوا المربّة
ذكرت محدِّثتي سميرة محجوب قصَّة تتعلَّق بالحِداد حيث قالت: أذكر ونحن أطفالٌ صغار وعندما (يحرد) أحدٌ منا الأكل أو الشرب لفترة بسبب الزعل ثم يعاود الأكل بشراهة ويتناول (المطايب) تنبري له (حبوبة) قائلة (ناس حبّه البَعَد القرض أكلوا المربَّى) وسردتْ لنا قصَّة ذلك المثل حيث يُحكى أنه كانت هنالك أسرة شهيرة بإحدى الولايات يطلقون عليهم اسم (ناس حبّه) وهو اسم شهرة، وحدث أن مات أحد الشباب من الأسرة فحرَّموا على أنفسهم كل المطايب واكتفوا (بمضغ القرض) وبعد مضي ثلاث سنوات تمّ عقد قران إحدى فتياتهم فقدموا ما لذّ وطاب من الطعام والحلويات كأنَّ شيئًا لم يكن من قبل، فأصبحوا مضرب مثل لكل من (يسوي البدع) ثم يعاود حياته بطريقة طبيعية.
(يا حليل أيام المحنّة) هكذا ابتدرت الحاجة نفيسة حديثها، وأردفت قائلة: زمنّا ما الزمن ده.. كان يوضع طشت من الرماد عند مدخل بيت البكاء وعلى جميع اللائي يجئن لأداء واجب العزاء أن يكشفنَ عن رؤوسهنَّ ويضعنَ كميَّة من الرماد عليهنَّ تعبيرًا عن حزنهنَّ العميق و(مجاملة) لأهل المتوفَّى، وإذا لم تفعل إحدى النساء ذلك الفعل وكانت صاحبة البكاء قد (جاملتها) من قبل فإنها ــ أي صاحبة البكاء ــ تقوم بنفسها بوضع الرماد على رأس تلك المرأة باعتبار أنها (طالباها). ولكن الآن النساء أصبحنَ لا يُعرنَ موضوع الحِداد أهميَّة وأصبحت الواحدة منهنَّ تتطيَّب و(تتحنَّن) مخصوص للذهاب لبيت البكاء، و(الحنَّة معروفة بتقطع المحنَّة).
لا تستحم المرأة ولا تغسل ثيابها إلا بعد كسر التربة
تحدّث الباحث في التراث الأستاذ الطيب محمد الطيب في كتابه (بيت البكاء) عن العادات والتقاليد السودانيَّة في المآتم (في ماضي السنين يفرشون على المتوفَّى أربعين يومًا بالكامل وظلت تتقلَّص حتى بلغت يومًا واحدًا في زماننا هذا… ويظل أهل الميت في الدار يستقبلون المعزِّين لعدة أيام وضربوا في ذلك مثلاً (البكا لي حولو بجيب زولو) والنساء المسنَّات يتمسَّكنَ ببالي التقاليد ومنذ أن يُشيَّع الميت لا تستحم المرأة، ولا تغسل ثيابها ولا تتطيَّب إلا بعد (كسر التربة).
السيدة (ثريا عبد الرحمن) عند سؤالنا لها عن الحِداد في السودان ابتدرت حديثها بالحمد والثناء على الله لحالة الوعي التي سادت بين الناس، وأضافت: قديمًا كان جميع نساء الأسرة والجيران مُلزَمات بارتداء ثوب من الدموريَّة مصبوغ بماء الشاي الأحمر ولايرتدينَ أحذية ولا يتطيَّبنَ ولايستحممْنَ إلا بالماء فقط، وزوجة المتوفَّى يجب عليها مقابلة (الحمارات) وعدم تسريح شعرها إلا من أسبوع لآخر والمشاط ليس مشاط زينة (ما دقاق) ولكن يُمشَّط الشعر بطريقة (الكوفات)، وهي طريقة غير منظَّمة لتسريح الشعر، ولكن الحمد لله الناس (عِرْفت) وأصبحوا يتعاملون وفق الشرع.
(الحاجة نور) من إحدى القرى بجنوب ولاية نهر النيل قالت في إفادتها: قديمًا كان النساء عند وفاة أحد الأشخاص خاصَّة إذا كُنَّ في مقتبل العمر لا يقربنَ الطيب ولا الزيوت ولا حتى الصابون للاستحمام، وتلبس زوجة المتوفَّى الثوب الأبيض، وكل النساء في فترة الحِداد لايأكلنَ سوى الكسرة بالماء والملح خالية من التوابل والزيت. ولا يذهبنَ لبيوت المناسبات لشهور عديدة قد تمتد لسنة ونيف، وإذا دعتهنَّ الضرورة وذهبنَ لبيت (نفاس) فإنهنَّ لا يشربنَ العصير ولا الشاي المحلَّى بالسُّكَّر ولا يتناولنَ الحلوى. أمَّا إذا كان المتوفَّى يُحبِّذ نوعًا معينًا من الأكل أو الشرب فإنهنَّ يحرِّمنه على أنفسهنَّ طيلة فترة الحِداد.
اللون الأبيض في الحِداد
واللون الأبيض كان لون الحِداد عند الأمويين وقد أنشد أحدُهم في هذا الصدد قائلاً:
الأ يا أهل الأندلس فطنتُم بلطفكم إلى أمرٍ عجيب
لبستم في مآتمكم بياضًا فجئتُم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزنٍ ولا حزنٌ أشدُّ من المشيب
وفي الهند أيضًا يلبسون الثوب الأبيض في (بيت البكاء) أما بقيَّة الألوان فتُلبس في المناسبات السَّعيدة والأيام العاديَّة كما أفادنا بذلك أنيل كومار رئيس الجالية الهنديَّة بالخرطوم.. بينما يستخدم البيض اللون الأبيض في ملابس الزفاف واختاروا اللون الأسود للحِداد.
الحداد.. يكون بارتداء النقيض للون البشرة
الأستاذ محمد المهدي بشرى من جامعة دنقلا كليَّة الآداب وباحث في التراث أفادنا في هذا الصدد بقوله: الموت واحد من طقوس دورة الحياة أو العبور، وهذه الطقوس تبدأ منذ ميلاد الفرد إلى أن يتوفَّاه الله، وكل مرحلة من حياته يحتفي بها المجتمع والأسرة احتفالاً يبدأ من الولادة والكرامة والسماية وحتى كرامة الأربعين ومن ثمّ الختان، ولكل احتفال كلماتُه وشعرُه.. ويُعتبر الحِداد واحدًا من تلك الطقوس حيث كانت زوجة المتوفَّى قديمًا مُلزمة بمقابلة (الحَمَارات) (شفقي الصباح والمساء)، ولا تخالط أحدًا ولا تحدِّث أحدًا خاصَّة الرجال… أما عن ارتداء اللون الأبيض في فترة الحِداد فهو أنَّ الحِداد يكون بارتداء النقيض للون البشرة، ونحن أصحاب بشرة سمراء لذا يرتدي نساؤنا اللون الأبيض على عكس ذوات البشرة البيضاء حيث يرتدين اللون الأسود. وهنالك كثير من عادات الحِداد تلاشت حيث تحوَّل الناس إلى اتباع الدين أكثر من العادات.
سحر بشير سالم
صحيفة الانتباهة